"الخروج إلى الداخل".. فيلم سوري يفترض حياة مدينة كمصح نفسي

كثيرا ما تتحمل النفس البشرية أعباء الحياة الطبيعية، بما تفرضه من متغيرات تتراوح بين السعادة والألم، فتجعل الإنسان في مهب الريح يواجه أعاصير الحياة وسطوتها، والناس يقاومون تلك الأعباء بأساليب شتى، بعضهم ينجح وآخرون يفشلون. وفي كل الحالات فإن أعباء الحياة تترك آثارها على الناس من خلال جروح نفسية عميقة تحفرها في وجدانهم، فتخلق عندهم خيالات عن مرحلة زمنية ماضية من حياتهم. فيلم “الخروج إلى الداخل” يتعامل مع هذه الثيمة، وهي التي تجعل من شخص خرج من مصح نفسي متمنيا أن يعود إليه.
تتداخل العوالم النفسية في فيلم “الخروج إلى الداخل” بين الحقيقي والخيالي، فعبثية حياة المدينة وعلاقاتها المتشابكة هي التي تسيطر على مظاهر الحياة فيها، والدهشة التي تعقد اللسان هي حال الناس في ردود أفعالهم على الكثير من التفاصيل التي يعيشونها.
في الفيلم أفكار ومصائر عن شخصيات تجد نفسها في واقع مأزوم، وتحت إلحاح رغبتها في تكشف واقع حياتها والرغبة في التعرف على ماهية الأسباب التي أوصلتها إلى هذه الحال المأزومة، تجد نفسها في متاهات أكبر وأكثر خطرا، من أبسط التساؤلات التي انطلقت منها وحتى الأعقد.
وتبدو حيات تلك الشخصيات دوائر متلاحقة من العبث والفوضى والاختلال النفسي والعاطفي، والتي تحاصر كل الناس في زمن غريب ومدينة غريبة تكسرت فيها القواعد وتغيرت فيها المفاهيم.
رؤية إلى المدينة
بطل الفيلم آرام (يزن خليل) هو شاب خرج من مصح عقلي بعد قضائه سنوات طويلة هناك أين واجه أوقاتا عصيبة، خرج ليجد أن حجم التغييرات التي أصابت المجتمع والبيئة المحيطة به أكبر مما كان عقله يتوقع ويحتمل. لذلك يشعر أن كينونته كإنسان عانى من مرض نفسي وشفي منه، قد تعرضت لخلل بنيوي، فصار يشعر بغربته عن مكانه وزمانه اللذين ينتمي إليهما.
ويتابع الفيلم رصد العديد من المواقف التي يلاقيها آرام وهو يحاول فك طلاسم محنته النفسية والحياتية التي باتت تحاصره وتهدد مستقبل حياته بالاستمرار في العيش وسط المجموعة بشكل طبيعي.
ولا يلتزم الفيلم بتقديم بنية سردية واضحة المعالم من البداية إلى النهاية، بل يعمد إلى الإمساك بتلافيف اللعبة السينمائية من حيث بنية الصورة والأسلوب السردي البصري في إيجاد دلالات وإسقاطات رمزية تحاول من خلالها إيصال فكرة الفيلم، الذي يحكي عن مدينة وطبيعة علاقات متشابكة تعيشها، ولا يكتفي بتقديم حكاية شاب واحد يعيش فيها، فالقضية جمعية وليست شخصية تخص واحدا من سكان هذه المدينة.

والفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، وهو من سيناريو وإخراج لوتس مسعود، في ثاني تعاون فني لها مع المؤسسة، ومن تمثيل: يزن خليل وتيسير إدريس وريموندا عبود وحمادة سليم وأمير برازي وأمينة عباس.
ولم تكن نظرة كاتبة الفيلم ومخرجته لوتس مسعود معنية بتقديم مسار حياة شخص واحد بمقدار ما كان يعنيها الفيلم كوسيلة لرصد التغييرات الأخلاقية في مدينة تعيش تحت وطأة الحرب، فهي انتقت شخصا واجه واقعا مصنعا في حياته ليكون دلالة على تكوين المدينة بأكملها.
وعن فيلمها والأجواء التي رافقت وجوده وما سعت للوصول إليه تقول لوتس لـ”العرب”، “يقدم الفيلم شخصية آرام الذي يواجه تحديات العبث بعد خروجه من المصح النفسي الذي كان فيه، يحاول أن يتأقلم مع محيطه الغريب، المشحون بالتناقضات والواقع الذي يعيش فيه يعكس طبيعة العلاقات التي وصلت إليها المدينة وعلاقات الناس فيما بينهم.
هذه المعادلة الصعبة تدفع آرام للاعتقاد بأن المصح النفسي الذي كان يقيم فيه أكثر رأفة به من المدينة التي يعيش ويكتشف ظروفها الغريبة. يتأثر آرام بما يجري أمامه من أحداث ويتنافر معها، وعندما يصل بيته مساء يتعرف على الأجواء الحقيقية التي دفعت به إلى المصح، ويكتشف أنها لم تكن عفوية بل مدبرة وهي تحمل تأكيدات على أن شيئا غير طبيعي يحدث في بيته وليس في مدينته فحسب”.
وعن التقاطعات الدلالية التي تحملها حكاية الفيلم وانعكاساتها على وضع المدينة التي تخرج من الحرب، تبيّن المخرجة أن “الفيلم لا يقدم حالة شخصية محددة، فهو يسلط الضوء على حالة متكاملة وصل إليها الناس من التخبط، وكيف تتقاطع مصائرهم بشكل عنيف، هذه الحالة تجعلنا نشعر بالدهشة التي تحيط بنا يوميا وتشكل الكثير من التصرفات غير المنطقية التي تواجهنا، والتي تصل درجة العبث في بعض اللحظات.
وتجعلنا نشعر أحيانا بأننا نعيش في مصح نفسي كبير بحجم مدينة، فكلنا لديه مشاكل حياتية، ولا نعرف إن كنا قادرين على إيجاد حلول لها، والمشكل الأكبر أنه لو لم نجد هذه الحلول سنكون أمام كوارث اجتماعية كبيرة كما حدث مع آرام".
بين السينما والمسرح
ظهرت لوتس مسعود في فني المسرح والسينما كاتبة ومخرجة، فقد قدمت منذ سنوات تجربتين مسرحيتين هما “لأنو مسرح” و”هوى غربي” اللتان قدمتا على مسارح دمشق وكانتا من إخراج والدها الفنان غسان مسعود.
أما في السينما فسبق أن قدمت فيلما قصيرا حمل عنوان “أول يوم” الذي يحكي يوميات مدينة دمشق في أول يوم بعد أن توقف القصف عليها، ورصدت بعضا من يوميات الناس في هذه الفترة التي تأملوا فيها الأمان بعد فترات عصيبة من الحرب ومخاطرها، وقد شارك الفيلم في الدورة السادسة من مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة بدمشق كما عرض في العديد من المهرجانات، وحصل في مهرجان براغ للفيلم القصير على جائزتي أفضل فيلم قصير وأفضل إخراج.
يذكر أن الجهة المنتجة للفيلم وهي المؤسسة العامة للسينما التابعة لوزارة الثقافة في سوريا التي أشرفت على مسابقة لنصوص الفيلم القصير، وتتكون من شقين هما: سينما الواقع الراهن وسينما الأطفال، وقد فاز نص فيلم “الخروج إلى الداخل” بالمرتبة الأولى في مسابقة الواقع الراهن قبل عامين.
◙ الفيلم يسلط الضوء على حالة متكاملة من التخبط وصل إليها الناس، وكيف تتقاطع مصائرهم الفردية بشكل عنيف
وسبق وأن أنتجت المؤسسة عديدا من النصوص التي شاركت في هذه المسابقة وحققت حضورا جيدا في المشهد السينمائي السوري والعربي، من أهمها فيلم “كبسة زر” الذي كتبه شادي وجد شاهين وأخرجه أيهم عرسان وحقق به جوائز عربية منها جائزة أفضل سيناريو في مهرجان تهارقا السينمائي الرابع في السودان وجائزة أفضل ممثلة للممثلة رنا شميس في مهرجان واسط في العراق وجائزة خاصة في مهرجان مزدة السينمائي للأفلام القصيرة في ليبيا وجائزة أفضل فيلم في مهرجان جامعة بابل في العراق.
من ناحية أخرى، يتابع الفنان الشاب يزن خليل الظهور في الأفلام السورية بشكل قوي، فخلال سنوات قليلة قدم خليل حضورا سينمائيا قويا، وهو الأمر الذي قدمه بصفته فنانا حاضرا بقوة في العديد من المحاولات الفنية.
بدأ يزن خليل مشواره السينمائي من خلال فيلم “حبر الآن”، الذي قدمه مع المخرج المهند حيدر ضمن مشروع دعم سينما الشباب في سوريا، وشارك الفيلم حينها في مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة وحقق فيه جائزة، كما قدم مع المخرج سيف الدين سبيعي فيلم “يحدث في غيابك” وهو فيلم روائي طويل، قدم فيه شخصية صعبة. وخلال الفترة القليلة الماضية شارك في العديد من الأفلام الأخرى منها مع المخرج الشاب مجيد الخطيب حيث لعب دورا في فيلم “النفق” ثم في فيلم “إنعاش” وهو من إخراج عمرو علي، وأحدث مشاريعه السينمائية فيلم “الخروج إلى الداخل” من إخراج لوتس مسعود.
كل تلك الأفلام كانت من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، وكان خليل قدم مع المخرج الشهير الليث حجو فيلما روائيا قصيرا حمل عنوان “الحبل السري” وهو من إنتاج دولي خاص.