الخاصرة الجنوبية للجزائر تزداد هشاشة

تتجه الجزائر إلى مسك العصا من الوسط في أزمة النيجر بعد البيان الأخير الذي أصدرته وزارة الخارجية، فهي إذ ترفض أيّ تدخل عسكري في البلاد، عبّرت عن دعمها للعودة إلى النظام الدستوري بقيادة الرئيس محمد بازوم، وهو ما يعكس مدى استشعارها للخطر الذي يشكله عدم الاستقرار في الجار الجنوبي على استقرارها هي الأخرى.
وفيما يتماهى موقفها مع حليفي السلطة العسكرية الجديدة في نيامي، وهما مالي وبوركينا فاسو، اللتان ترفضان أيّ تدخل عسكري في النيجر، وتعتبران أيّ محاولة لذلك هو اعتداء عليهما، فإن دعمها للوضع الدستوري هو انخراط في موقف المجموعة الدولية التي ترفض الانقلاب على السلطة الشرعية في النيجر.
وهذا ما يعبّر عن استعدادها للتعاطي مع أيّ مخرج تنتهي إليه الأزمة المستجدة، حتى ولو أنها لا تملك ضمانات بشأن الفرضية الثانية وهي عودة مأمورية حكم النيجر إلى العسكر، لأن التجربة القائمة في مالي، تلمّح إلى النخب العسكرية الصاعدة في أفريقيا وترى الجزائر امتدادا للقوة الغربية المهيمنة على القارة الأفريقية.
الجزائر، البوابة، والأكبر مساحة في القارة، والقوة الفاعلة في المنطقة، لا زالت الرمال تتحرك في جوارها دون علمها ولا رأيها
وإذا كانت تجربة الحكم العسكري في مالي لا زالت تلقي بالمزيد من المتاعب على الجزائر، فإلى جانب التنصل التدريجي من اتفاق السلام الذي ترعاه منذ العام 2015، لم يعد القرار المالي يمر عبر الجزائر كدولة مؤثرة، فإن عدوى الفوضى السياسية بصدد الامتداد إلى الدولة المجاورة الأخرى، وليس بعيدا أن يتطابق نفس السيناريو بكل تداعياته على الحدود الجنوبية للجزائر.
وبهذا المعطى الجديد، تكون نحو 2400 كيلومتر من الحدود البرية الجنوبية للجزائر والمشتركة مع النيجر ومالي، قد انكشفت تماما من آليات الضبط والمراقبة المعهودة في العلاقات الدولية، وهو أمر في غاية الخطورة بالنسبة إلى الأمن والاستقرار الجزائريين.
وعلاوة على قوافل الهجرة السرية التي كانت تنقل يوميا المئات من المهاجرين الأفارقة عبر التراب الجزائري، عبر طرق ومسالك يصعب مراقبتها وملاحقة الشبكات الناشطة بسبب التضاريس الصحراوية الوعرة، هناك نشاط الجماعات الجهادية المسلحة، وعصابات التجارة المحظورة، كالتهريب والمخدرات والسلاح.
وإذا كانت هذه المعطيات قد ثبتتها الجغرافيا منذ الأزل، فإن القرار الإستراتيجي الجزائري، لا زال على ما يبدو غير متكيف مع المسائل الجيوسياسية، لأن التطورات المسجلة في المنطقة تجري دون الحضور اللازم، عكس عقود خلت كانت الجزائر حاضرة في كل ما يتحرك بمحيطها.
لقد كان مدير مكتب وكالة الأنباء الجزائرية بتونس على اطّلاع بالتحول السياسي الذي أطاح بالرئيس الحبيب بورقيبة وقدوم زين العابدين بن علي، أما الدوائر السياسية والاستعلامات فحدث ولا حرج، مما يعني أن الخطوة تبلورت تحت عيونها.
لكن هذا الدور يغيب لدى صناع القرار الإستراتيجي، وإلا لما تحركت حبة رمل سواء في مالي أو النيجر أو في أيّ بلد آخر مجاور، دون علم الجزائر ورأيها، وذلك أمر مشروع وليس تدخلا في الشؤون الداخلية للدول كما يعتقد البعض، وإذا كانت بعض العواصم تؤثر في صناعة رؤساء وقرارات دول أخرى، فإنه كان جديرا بالقائمين على الشؤون الإستراتيجية التحلي بروح الاستشراف والترقب والاطلاع، لأن مصالح كثيرة وكبيرة صارت مهددة بهذه التطورات المتسارعة.
بلغة اللاعبين الكبار، فإن النهاية التدريجية للنفوذ الفرنسي في أفريقيا عامل مساعد على عودة أفريقيا إلى الأفارقة، لكن أن يتم استبدال لاعب بلاعب آخر، فذلك يعني أن القارة ستبقى على حالها
الأفارقة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو.. وغيرها، أسقطوا رايات فرنسا وهاجموا مصالحها ومرافقها للتعبير عن غضبهم من الدولة الأوروبية التي تستغل أرزاقهم وثرواتهم وتنصّب لهم حكامهم، لكنهم في المقابل رفعوا رايات روسيا كمخلّص لهم، ولم يرفعوا راية أفريقية أخرى، مما يعني أن الشارع الأفريقي يريد تغيير المستعمر وليس التحرر من الاستغلال السياسي، وهذا يكرس الفراغ الأفريقي داخل أفريقيا، والقوى الأفريقية الكبرى بما فيها الجزائر لا زالت دون كسب تعاطف الفرد الأفريقي، بل هي أكبر ضحايا الرمال المتحركة.
مصالح جزائرية كبرى في أفريقيا، وحدود برية تناهز الـ2400 كيلومتر، وتداعيات خطيرة على أمنها الإستراتيجي، ومع ذلك تتراجع الجزائر منذ عقود عن أداء دورها، وتترك المجال إلى لاعبين آخرين يحركون قطع الشطرنج كيفما شاؤوا، ولذلك ها هي الآن مهددة بدفع فواتير ضخمة لتأمين الحدود من الهجرة السرية والجريمة المنظمة ونشاط الجماعات الجهادية، وتعطيل استثمارات اقتصادية، وتكتفي في آخر المطاف بتسيير أزمة وتخفيف أضرارها بدل استشرافها ومعالجتها في مصدرها.
وبلغة اللاعبين الكبار، فإن النهاية التدريجية للنفوذ الفرنسي في أفريقيا عامل مساعد على عودة أفريقيا إلى الأفارقة، لكن أن يتم استبدال لاعب بلاعب آخر، فذلك يعني أن القارة ستبقى على حالها، لأن باريس التي تستغل يورانيوم النيجر لإضاءة باريس ومرسيليا، تقابلها “فاغنر” الروسية التي تؤمّن السلطة العسكرية في مالي وتقبض أتعابها من عائدات نشاط التعدين الذي تباشره في البلاد.
الجزائر، البوابة، والأكبر مساحة في القارة، والقوة الفاعلة في المنطقة، لا زالت الرمال تتحرك في جوارها دون علمها ولا رأيها، ولذلك فهي بدل أن تكون بديلا إيجابيا يمحو صور الاستغلال والسطو الاستعماري، تحولت إلى هدف يتحمل أعباء التغيرات وصدام المصالح.
صحيح أنه يمكن التعاطي مع ما تفرزه الأحداث لضمان الحد الأدنى من الاستقرار والمصالح، لكن ما مصير استثمارات ومشاريع كبرى تراهن عليها لتحقيق الاندماج الأفريقي، على غرار مشروع الألياف البصرية وحقل الكفرة النفطي المشترك، وخط الغاز نيجريا – الجزائر مرورا بالنيجر.. الأكيد أن الاستثمار الأكبر والأنجع في أفريقيا هو مراقبة حركة الرمال، قبل أيّ استثمار آخر.