"الحيوان وأنا".. رجل يبحث عن اللاهوية متطهرا بسلوك الحيوانات

أمجد توفيق يعود بنا إلى الطبيعة بحثا عن حكمة أخرى.
الأحد 2024/04/07
المساواة الأخلاقية بين الإنسان والحيوان (لوحة للفنان ميسم مليشو)

رغم قلتها في الأدب العربي وحتى العالمي تبقى الأعمال السردية التي تقتحم عوالم الحيوان والطبيعة، وتماهي بينها وبين البشر، الأكثر تأثيرا في لفت انتباه البشر إلى أنهم جزء من الوجود، وأن سيادتهم على العالم لا تقودهم إلى السعادة التي يحققها لهم انتماؤهم إلى الطبيعة، وتداخلهم في عالم الحيوان ليس من باب الغريزة وإنما من باب الصدق. بطل رواية “الحيوان وأنا” يحاول تحقيق ذلك.

جسدت بعض أعمال الروائي إبراهيم الكوني اتجاها جديدا في توظيف سرد الحيوان يتمثل في الاستعانة بالمتخيل الحيواني في تجسيد البيئة الطبيعية واستثمارها سرديا بكل ما فيها من حيوات وموجودات. وعلى الرغم مما فتحه الكوني من آفاق في هذا المجال، فإن النماذج الروائية العربية تبقى قليلة بالقياس إلى المدة الزمنية غير القليلة التي مضت على ابتكار هذا الاتجاه في السرد العربي.

من الروايات الجديدة التي تبنت هذا الاتجاه “الحيوان وأنا” 2024 لأمجد توفيق، وفيها الإنسان هو الحيوان، ومحنة الاثنين معا هي في البيئة المدنية التي مسخت هويتهما وقيدت حريتهما وباعدت بينهما. ولا مجال لاستعادة العلاقة الروحية والتحرر الجسدي إلا بالعودة إلى أحضان الطبيعة ونظامها الذي فيه يشعر الكائن بوجوده ويتصالح مع القوى الميتافيزيقية، فلا هو يتمرد عليها ولا هو ينكر دورها القدري.

التماهي مع الطبيعة

التآلف مع الحيوان والطبيعة هو نفسه التآلف مع الذات، وهو ما كاد بطل الرواية يمسك به ويحوله إلى واقع عملي

كان لاستعمال طريقة السرد الذاتي دور فني في تأكيد حقيقة ما تقدم، أعني أن الإنسان والحيوان يخضعان لنظام واحد وأنهما تابعان لقوى بعينها تحدد مصيريهما. واتخذ السرد الذاتي من الهوية موضوعا حوله تدور العلاقة الروحية التي تشكلت بين الشخصية البشرية “دانيال علي موسى” وشخصية الحصان “ظلام” والكلب” ليل”. ولا يخفى ما في هذه الأسماء من إشارات دلالية؛ فالاسم البشري اجتمعت فيه ثلاث هويات في حين اشتمل الاسم الحيواني على الطبيعة بوصف ظلام الليل صورة من صورها.

وإذا كان داخلَ السارد حيوان أليف، فإن داخل الحيوان إنسانا ودودا جسّدته حيوانات المزرعة في إشارة إلى ذوبان الهوية وتلاشيها في خضم النظام الطبيعي الذي فيه وجد السارد حريته، فكان الحيوان معادله الموضوعي. وما كان للعلاقة الحميمة بين دانيال وظلام أن تتوطد لولا ما عاناه من ضغط المدينة غير الإنساني؛ فدانيال تقلبت به أهوال العمل من شرطي يطارد اللصوص وجندي في ساحة المعركة إلى متقاعد تقدم به العمر وصار قعيد البيت.

ومثل دانيال الحصان فلقد تعرض لمعاملة قاسية في سباقات الخيل فكسر رسغه وأودع الإسطبل ليقضي فيه بقية حياته. بيد أنهما ما إن تعارفا وتعايشا داخل المزرعة حتى وجداها الملاذ الذي فيه اكتشفا أنهما واحد. وإذا كانت المدينة سجنا، فإن المزرعة فضاء حر لا حدود له. والحرية هي مطلب الذات الباحثة عن الحكمة والمقترنة بنظير لها يبادلها مشاعر التحرر والاستقلال “أشعر بامتنان كبير لأية كلمة مديح تقال في ظلام إذ يمكن أن أغفر عن كلمة سيئة تقال بحقي أما بحق ظلام فلا”.

والتساوي في القيمة الأخلاقية يعني أن للحيوانات مشاعرها التي هي كمشاعر البشر، ومنها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي. فكانت القطط والدجاج مثلا تنظر بعين الحسد إلى الحصان والكلب. ولذلك راعى دانيال مشاعرها وتفهم سلوكها وحاول ألا يجرحها من خلال المؤالفة فيما بينها ناظرا إلى كل حيوان صديقا، يهتم كثيرا بخدمته، كي لا يشعر بالوحدة أو الفراغ. وكان كثير الاستبطان لمشاعر حيواناته كما استعمل المونولوج بأنواعه “تبعني ليل وكان واضحا أنه يعاني من حيرة شبيهة بحيرتي وفي الخارج عينا ظلام تضيئان قلبي بالحب فلماذا يكون الحب والمشاعر العميقة بوابتين للحزن؟”، وهذا هو السبب الذي جعل الحصان والكلب مقربين منه أكثر من الحيوانات الأخرى التي ما كانت معنية سوى بطعامها.

ضمير المتكلم

f

وإذا كان لاستعمال ضمير المتكلم دور في تمركز السارد، فإن انشطار صوته -تبعا لتغير أوضاعه ودرجات تبئير وجهة نظره- ساهم في تجسيد فاعلية المساواة بين الإنسان والحيوان. وكالآتي: أولا، أن تكرار مفردة “أنا” جعل اللاهوية هي سمة الشخصيتين البشرية والحيوانية “أنا الرجل/ أنا الأرمل/ الحيوان هو أنا/ أما أنا/ أحسها أنا/ أنا هارب/ أنا حمار/ أنا الحيوان/ أنا حر/ أنا جاهز.. إلخ”.

ثانيا، أن المدينة مكان طارد وبسببها عانى السارد من محنة نفسية كبيرة “أنا من ترك بيته في المدينة ولجأ إلى مزرعة حيث أعيش بهدوء وتأمل”، وكلما لاحقته المدينة تشبث بالأرض بحثا عن الصفاء الروحي وحبا للحياة وكائناتها المختلفة.

ثالثا، أن الطبيعة هي المكان الجاذب الذي فيه وجدت الذات نصفها الآخر “فجأة أحسست أنني تجاهلت حيوانا آخر يعيش معي، حيوانا يعاني بصمت عندما يجرجر خطواته ويحاول أن يؤدي أعمالا وحركات تعينه على تأكيد صداقته وحبه لي، لكن خيانات الجسد تفقده القدرة فتضيء عيناه بلون يشبه العتاب ويشبه احتضار فكرة تعجز اللغة عن الإحاطة بها، هذا الحيوان هو أنا وعليّ أن أهتم به وأطعمه كما أفعل تماما مع الكلب والقطط والدجاج وليس مقبولا أن أهمل حاجاته مهما كان صمته بليغا أو رافضا. حيواني العجوز يتيح لي أن أتمتع بإحساس كوني شابا يفيض نشاطا ويستطيع الاهتمام بحيواناته جميعا”.

رابعا، العودة إلى الطبيعة هي عودة إلى الفطرة والغريزة التي معها لا يكترث الإنسان بعمره. وعبّر السارد عن العودة بالموجة، وكررها في أكثر من موضع على شاكلة قوله “أشعر أنني على موجة جديدة” وبسبب ذلك تخلص دانيال من تعاليه، وتمكن من أداء أعماله اليومية بكل حيوية ومنها الاعتناء بحيواناته.

لا مجال لاستعادة العلاقة الروحية والتحرر الجسدي إلا بالعودة إلى أحضان الطبيعة ونظامها الذي فيه يشعر الكائن بوجوده

خامسا، السعادة فكرة يسعى إليها الإنسان داخل المدينة فلا يجدها، لكن انسجامه مع الطبيعة والانغماس في تأملها هما اللذان يوصلانه إلى السعادة “قبل شرائي لمزرعتي الحالية كنت أعاني من اتصالات ابني نبيل شبه اليومية ومعاناتي تكمن في قلقه غير المسوغ لوضعي وأظن أنه فكّر بي كرجل عجوز يحتاج إلى رعاية” و”بذلك استكمل بهجتي في مزرعتي”، فالتأمل غريزة وليس فكرة، وما من كائن حي إلا ويملك غريزة التأمل “فيمكنني التنزه وحيدا تاركا حيواناتي تتأمل ظلي وهو يبتعد”.

سادسا، الذاكرة تعني الغربة والفقدان والشتات، ولذلك تخلّى البطل عن ذاكرته كي ينسى ما فيها من آلام ومنغصات “هذه الذاكرة المتعبة تحيرني وأود أن أمنحها إجازة طويلة تكفيني سعادتي بظلام وليل وقططي ودجاجاتي وأشجار مزرعتي”، وبالنسيان تنطلق المشاعر متولدة من تلقاء نفسها، فيبتعد السارد أكثر عن المدينة، وينسى ما له فيها من ذكريات الدراسة والعمل والأصدقاء وغيرهم.

سابعا، أن السخرية من حياة البشر توصل إلى الحكمة، ولا يبحث السارد عنها إلا مع حيواناته “مشكلتنا كحمير أننا اتجهنا إلى جوهر الكلام لا إلى شكله كما يفعل البشر”.

بحثا عن اللاهوية

أمجد توفيق يثبت في روايته أن الإنسان والحيوان يخضعان لنظام واحد وأنهما تابعان لقوى بعينها تحدد مصيريهما
أمجد توفيق يثبت في روايته أن الإنسان والحيوان يخضعان لنظام واحد وأنهما تابعان لقوى بعينها تحدد مصيريهما

المحصلة أن الحيوان أصبح معادلا موضوعيا للإنسان “أشعر بصلة عميقة مع أصدقائي الجدد. أظن أنني اكتشفت مؤخرا أنني حيوان”؛ فالتعادل الصوتي يقود إلى التعادل الموضوعي ومعهما تتأكد حرية الذات في الفرار من المدينة ونظامها المادي الممل والقاسي. فاستعاد البطل حريته كما شعر الحصان والكلب بقيمتهما وصارت المساواة أمرا مقبولا بين دانيال وحيوانات المزرعة.

هذا التلاقي بين الإنسان والحيوان في الإحساس باللاهوية، كان له أن يتعزز أكثر لو إن البطل تمكّن فعلا من نسيان ذاكرته والالتفات إلى مزرعته، معمقا فاعلية تأثير الطبيعة في حياته وحياة حيواناته. بيد أن ذلك لم يحصل، فانحرف مجرى السرد من نصرة الحيوان إلى نصرة البشر. الأمر الذي أدى إلى تراجع مستوى سرد الحيوان ومعه أخذ حضور الطبيعة يختفي تدريجيا؛ أولا بقدوم الصديق القديم إلى المزرعة ومعه ابنته المهددة بالخطف، وثانيا بانشغال السارد بدفتر يوميات هذه البنت، وثالثا بالعلاقة العاطفية التي جمعته بذكرى، ورابعا بسفره إلى لندن وخطبة ابنة الصديق القديم لابنه نبيل.

ساهم ما ذكرناه في أن يتمكن دانيال من ترميم تصدعات هويته من جراء أعمال الخطف والابتزاز والتهجير والاغتراب. وبذلك حكم على مشروعه الإنمائي -الذي بسببه هرب من المدينة ولجأ إلى المزرعة- بالفشل فلم يتمكن من تحقيق ما ألزم نفسه ببلوغه في بداية الرواية وهو امتلاك اللاهوية والشعور بالحرية والاستقلال في المساواة الأخلاقية بين الشخصية البشرية والشخصية الحيوانية. ومن ثم ضاعت فرصة التأمل واقتناص الحكمة ومحو الذاكرة. فابتعدت الرواية عن نهجها في مركزة الحيوان والطبيعة، وتحولت إلى نهج واقعي نقدي مادته الأحداث الاجتماعية والسياسية التي عصفت بالعراق في ما بعد 2003.

ومن تبعات هذا التحول أولا أن الذاكرة صارت أكثر فاعلية بسبب ضغط المدينة القوي على وعي السارد ولاوعيه أيضا. الأمر الذي أوجب عليه استرجاع مخزوناتها وليس فيها للبيئة الطبيعية سوى مساحة ضئيلة لا تكفي لأن تكون ظاهرة بوضوح؛ فمثلا حين يستدعي السارد ذكرى أليمة تعود به إلى أيام الصبا لا يشير إلى “البساتين، الأشجار، الحشائش، العلف، الحيوانات” إلا كمنظر وصفي إطاري لمشهد سردي واقعي هو حادثة استدراج صاحبة الشوال له.

التحرر خروج من الهوية المسبقة (لوحة للفنان ميسم مليشو)
التحرر خروج من الهوية المسبقة (لوحة للفنان ميسم مليشو)

ثانيا، أن ما مرره السارد في خضم السرد الواقعي من مونولوجات وحوارات بين السارد وظلام، ما كان له تأثير واضح في استعادة تلك الصلة الروحية التي كانت بينهما في الجزء الأول من الرواية. فتناقص أثر المكان، وتصاعد فعل الزمان باسترجاع أحداث سابقة على القصة الأصلية. وأحيانا يصل الاسترجاع الذاكراتي حدا يجعل البطل مشدودا إلى الماضي، ناسيا ما كان قد عاهد نفسه به وهو التخلي عن ذاكرته “يبدو لي أن ذاكرتي تنشط في محاولة منها لدعم قراري بالابتعاد عن المدينة والعيش وحيدا في مزرعة وإلا لمَ لا تسترجع ذكريات سعيدة أو مبهجة؟”.

ثالثا، إن تحول الأوضاع السردية بسبب تغير زوايا التبئير حال دون أن يكون النسيان باديا بصورة كافية على دانيال. فلم يستطع التخلي عن الذاكرة ولا الانفصال عن المدينة. وبدلا من أن يميت الذاكرة، راح يحيي ما فيها من خبرات وتجارب، فبقي في تعاليه حريصا على هويته، تاركا أمر التعادل مع الحيوان جانبا، منشغلا بالبشر في علاقاتهم ومشكلاتهم، مستجيبا لما اعترض طريقه منها، فوقع في شرك متعلقاتها عملا وسفرا وديونا وملذات.

وعلى الرغم من ذلك لم يقطع الأمل بإمكانية أن يبحث عن اللاهوية بمكان طبيعي يتطهر فيه بسلوك الحيوان “فكيف لا أبحث وأتطهر بسلوك الحيوان؟ هذا هو اعترافي ولو تليته على ظلام العزيز وليل الوفي لكانت ردة فعلهما تكمن في قول أنسبه لهما: هذا الرجل بالرغم من أنه صديقنا لكنه أبعد مما يكون عن رغبته في أن يصبح حيوانا أمامه الكثير ليؤكد ذلك”.

وهذا مؤشر مهم على أن البطل مدرك لحقيقة أنه غير قادر على التخلص من المدينة ولا التخلي عن الذاكرة.

 ويعترف البطل أولا بفشله في البحث عن الحكمة في الحيوان، ويستبق حاله وقد سخر الحيوان منه “أصادق حيوانات أخرى حتى وإن سخرت من محاولاتي فسخريتها تعلمني درسا مهما قوامه أنها تمنحني الحرية”. ويؤكد ثالثا أن هذا الفشل هو الخطأ القاتل الذي أضاع عليه فرصة التحرر، فتبددت محاولاته في استعادة ما ضاع “حين أمعن التفكير أزعم أن كل هذه الأخطاء كانت صغيرة وتافهة قياسا بالخطأ الذهبي الذي أحمل رايته. إلى ذلك فإن هذه الأخطاء تنسحب وتوافق على فشلها وإخفاقها اعترافا منها بالخطأ الذهبي الذي جعلني أكتشف أن الحيوان في داخلي يرفض الموت بطريقة لم يخترها”.

وتوجز الجملتان المكثفتان اللتان بهما تختتم الرواية “أنا حر، أنا جاهز للموت” فكرة أن التآلف مع الحيوان والطبيعة هو نفسه التآلف مع الذات، وهو ما كاد البطل يمسك به ويحوله إلى واقع عملي لولا ذاك الخطأ الذهبي الذي ما كان له أن يصححه أو يتلافى وقوعه، ومن ثم تلاشت فرصته في الحرية والتطلع إلى اللاهوية بعد أن كانت ذاته تتوق إلى بلوغهما عبر المساواة واقعيا بالحيوان.

11