"الحياة قصاصات على الجدار" تخطّ مسيرة سينمائي عراقي

أجمل ما يمكن أن يكتبه مثقف في أيّ مجال كان، ذاك الذي يخطّه عن زميل له يشاطره آماله وهواجسه، فتتقاطع طرقهما سويّا بفعل القدر أو الصدفة، وتجمعهما لحظات تاريخية ترسم مسار الفن الذي اختاراه كفضاء رحب للتعبير الحرّ والمسؤول. وهذا ما خطّه المخرج السوري محمد ملص عن صديقه المخرج العراقي قيس الزبيدي مدوّنا عبر كتابه "قيس الزبيدي: الحياة قصاصات على الجدار" رحلة أمل وألم جمعتهما على طريق الاشتغال السينمائي الجاد.
دمشق – في مغامرة، يصعب تصنيفها شكلا، حيث حملت ملمح الترجمة والسيرة الذاتية والشكل الصحافي والنقدي في آن واحد، يقوم السينمائي السوري محمد ملص بتأليف كتاب عن صديقه ورفيق دربه السينمائي المخرج العراقي قيس الزبيدي ليحمل للقارئ متعة الشوق لمعرفة المزيد عنه وعن تاريخ السينما السورية والفلسطينية الحديثة.
ويقول ملص في كتاب “قيس الزبيدي: الحياة قصاصات على الجدار”، “قيس الزبيدي وطنه السينما، وجذره نسغ مكاني يمتد من بغداد شرقا إلى برلين في الغرب وزمانه ثمانون عاما، علا فيها صهوات الحياة، فدرس فن المونتاج السينمائي في ألمانيا وامتلك ثقافة عالية وضعته في قوائم الإبداع السينمائي العربي مونتيرا، كاتبا، مخرجا، مدرسا، باحثا، وفيلسوفا في السينما”.
سينمائي خالد
يحكي قيس الزبيدي “ولدت على الجسر العتيق المسمى جسر الشهداء في (الحيدر خانة) في بغداد عام 1939”. تباغتنا الجملة في كتاب يفترض أنه بلسان الغير، لكنه يقدّم معلومة واضحة عن الجذر المكاني والزماني الأول لقامة إبداعية كبيرة، أوردها الكاتب على لسانه.
ويضيف ملص “بين الجسر العتيق في بغداد وزمن الولادة، ويومنا الحاضر، وعلى امتداد ما يقارب العقود الثمانية في مشوار العمر، عصفت به رياح السفر والغربة والكد والإبداع فرسم في تفاصيلها خارطة حياته التي ارتسمت في جذره العراقي ثم السوري والفلسطيني، وأخيرا في برلين الشرقية التي خلعته عن عرشه المتخيل”.
وجاء كتاب “الحياة قصاصات على الجدار” الذي كتبه ملص عن الزبيدي، والصادر عن دار “نوفل هاشيت أنطوان” في لبنان، وكأنه بطاقة البحث والمحبة وكذلك الحنين لأزمان عاشاها معا كسينمائيين حملا هموما وأحلاما عريضة، تغلبت عليها سطوة الحياة، وقسوة الأيام، فوصل بعضها بينما تاه آخر في أطوار التنفيذ، وبقي الجزء الأكبر أفكارا حبيسة في طاقة العناد على استمرار الحلم.
هكذا يؤرّخ ملص لتوأمه الإبداعي، الزبيدي، الذي جمعتهما لحظات فارقة من العمر في دمشق وبرلين، فترافقا في رحلة محفوفة بالأمل والألم على ضفاف السينما وأبحرا في أعماقها بعدد من الأفلام، التي أصبح الحديث عنها في الحاضر جمرات توقد الذكريات العميقة.
ومن خلال الكتاب الذي تجاوز المئتي صفحة بقليل يقدّم ملص شهادتين لقامتين فكريتين، هما بشار إبراهيم الذي كتب عن سينما الزبيدي في الشأن الفلسطيني وعن الأهمية التي حملتها أفلامه في إيضاح حقيقة القضية الفلسطينية أمام العالم، بينما كتب فيصل دراج في مقال طويل عن آفاق تجربة الزبيدي وأساليبه في العمل وتوجهاته الفنية والقضايا التي طرحها في سينماه .
تجربة قاسية
يحفل الكتاب بسيل من المعلومات التي تقدّم وجهات نظر ومعلومات مهنية وشخصية عن العديد من الشخصيات السينمائية السورية، التي رافقت تأسيس ثم انطلاق المؤسسة العامة للسينما، مستعرضا مرحلة سبعينات وثمانينات القرن الماضي. وفي هذا الجزء، يحكي الزبيدي عن تفاصيل عمله في إخراج فيلمه الروائي الوحيد “اليازرلي” الذي أنجزه في أوائل سبعينات القرن الماضي.
ويقول الزبيدي عن تلك التجربة القاسية “كان هدفي من الفيلم أن يكون بيانا في اللغة البصرية، وأن يقدّم طموحا تشكيليا لوسيلة سرد مختلفة، لما يمكن أن يكون عليه الفيلم العربي. كنت محظوظا بأن أُتيحت لي فرصة إنجاز بياني السينمائي الخاص، فأردت أن أؤكّد أنه في إمكاننا صنع أفلام كهذه. إن اليازرلي بالنسبة لي علامة سينمائية مميزة”. وهو الفيلم الذي حجب عن العرض الجماهيري بعدها لمدة تقارب الأربعين عاما، رغم القيمة الفنية الكبيرة له والتي دفعت بالناقد المصري الراحل سمير فريد، إلى القول “إنه صورة جديدة للسينما العربية”.
وعن تجربة الزبيدي عامة يورد ملص رأيا للناقد السينمائي السوري الراحل سعيد مراد الذي كتب في مقال نقدي قديم “إن سينما الزبيدي تتّسم بأمرين هامين، النزعة التجريبية في مجال الشكل الفيلمي أولا، وتعامل المخرج مع الأفكار كتكثيف مجرد للواقع، ثانيا”.
ولم يشأ محمد ملص أن يكون كاتبا عن قيس وغيره في الكتاب فحسب، بل كتب فصولا مطوّلة فيه عن علاقتهما المهنية والشخصية الطويلة، التي بدأت بالاطلاع على عمله في سوريا عندما كان طالبا في معهد السينما بموسكو.
إنه يكتب عن تجارب جمعته بالزبيدي بدءا من بداية الثمانينات لمونتاج فيلم “المنام”، حيث ذهب إليه في برلين الشرقية حينها، التي يمتلك الزبيدي فيها ثقلا فنيا كبيرا، لكي يقوما بمونتاج الفيلم الذي صوّر قبلها بسنوات، واستطاع الزبيدي أن يتدبّر أمر مونتاجه في برلين الشرقية بسبب علاقته مع الألمان من خلال منظمة التحرير الفلسطينية التي كان يعمل معها .
وفي التفاصيل، يكتب ملص بكثير من الحميمية عن دقائق المكان، المليء بالفكر والفن والهدوء، عن الناس والأحلام والآمال التي بنياها معا. مستعرضا في يومياته بعضا من خبايا المكان والناس والوجوه والأحداث، حتى في تفاصيل الطعام والمشاوير والتنزّه اليومي الذي كانا يقومان به برفقة عدنان سلوم الخبير التقني المرافق.
كما كتب فصلا آخر شبيها عن تعاون جديد بينهما في مونتاج فيلم “الليل”، الذي كتبه وأخرجه ملص. وكيف عملا معا على تجهيز ماكيت مونتاج الفيلم في بيته البرليني مجددا، على أشرطة الـ”VHS”، وهي التجربة التي تكرّرت لاحقا مع فيلم “حلب مقامات المسرة”.
يتخيّل الكاتب أن صديقه المسكون بالسينما يشبه الإمبراطور المخلوع عن عرشه. فينهي كتابه عنه بحسرة يطلقها الزبيدي بألم في نهاية حوار صحافي مسجل “كانت السينما التسجيلية التي أمضيت العمر كله معها، خياري الثاني وليس الأول، وبقي الخيار الأول في السينما مفقودا، فعشت مع الثاني”.
يُثبت كتاب ملص عن صديقه الزبيدي أن هذا الأخير لم يكن حياديا في تاريخ السينما العربية، فمن خلال موهبته وثقافته الفنية العالية، دوّن اسمه مع كبار مخرجي الأفلام العرب، ورغم مصاعب الغربة والبحث عن فرص العمل، خلّد اسمه في السينما السورية والفلسطينية خصوصا، كواحد من بناة نهضتهما.