الحياة حلوة خارج السوشيال ميديا

السوشيال ميديا نجحت في تفرقتنا، بين من يعيش في الافتراضي ونسي حياته الحقيقية ومن أخرجه العالم الافتراضي من بشريته.
الأربعاء 2024/02/14
السوشيال ميديا نجحت في تفرقتنا

قبل نحو خمسة وسبعين عاما وتحديدا في العام 1949، غنى المطرب فريد الأطرش أغنية أصبحت في السنوات التالية وحتى اليوم واحدة من أشهر أغنياته.

“الحياة حلوة بس نفهمها”، مطلع الأغنية الذي أصبح “إفيه” يتداوله الناس أحيانا كدليل على أن الحياة لا تصبح حلوة إلا إذا فهمناها.

هذه الأغنية الشهيرة قدمها فريد الأطرش في فيلم “أحبك أنت”، من كلمات مخرج الفيلم أحمد بدرخان.

في الواقع، تعد قضية فهم الحياة قضية شائكة، حيّرت الإنسان منذ بدء الخليقة، وكلّ منا يدّعي بأنانية أنه أكثر الناس فهما للحياة، وربما ينهي المرء عمره بأكمله وهو يعتقد ذلك، حتى يكتشف أخيرا أن فهم الحياة أمر نسبي يختلف من شخص إلى آخر، وكلّ يرى الحياة بعينيه ويحللها بعقله، وربما لا يكتشف ذلك أيضا.

طبيعة الإنسان أنه يعتاد الفرح ولا ينسى الألم والحزن، يحب الراحة ولا يريد المثابرة، يحب الحرية ويتملص من المسؤولية، لذلك تجده لامسؤولا كلما كان فرحا مرتاحا، يشعر بأن الحياة حلوة. لكن الثبات على أيّ أمر يوقعنا في الملل، والحياة جمالها في تنوعها وتغيرها الدائم، بتلك التجارب الصغيرة، وبالتناقضات الرهيبة التي تسيرنا أحيانا ونختارها حينا آخر.

بالعودة إلى الأغنية فأول ما يلفت انتباهنا هو البيت الأول حيث يتضمن حكمة بالغة الأهمية وهي أن الحياة حلوة شرط أن “نفهمها”، ثم يضيف فريد الأطرش “الحياة حلوة محلى أنغامها، ارقصوا وغنوا وانسوا همومها”.

في زمن صدور الأغنية، كان الرقص تعبيرا عن الفرح والغناء وفنا ممتعا ينسي الهموم، أما اليوم مع وسائل التواصل الاجتماعي و”التيك توك” تحديدا، يرقص الجميع “على طار بوفلس” (طار ثمنه فلس). نساء وفتيات وحتى أطفال ورجال امتهنوا الرقص، بكل أنواعه – ونستثني منهم المدربين والمحترفين ممن يقدمون دروسا على “بروفايلاتهم” – فالبقية يرقصون لغاية الرقص فقط، همومهم كالجبال، حيواتهم لا معنى لها، عقولهم فارغة وهم يحركون أجسادهم ويصرخون “كبس كبس”، ففي تلك “التكبيسة” أموال وغنائم، تختصر لهم الحياة في المال والربح السريع.

تفشت هذه الظاهرة لدى كل الشعوب العربية، فالكل يجري وراء الإثارة ويوظفها حسب مشيئته وحيث تتمركز أغراضه ومآربه حتى أصبحنا شعوبا ترقص أو تغني أو تصور الحياة الحلوة كما يحلمون بها، ويسعى البقية إلى تقليدهم.

بسرعة تحولت الحياة البسيطة الهادئة الطبيعية إلى مصدر قلق مزمن، فكم من زواج خرب جراء رغبة في تقليد حياة التيك توك وفيسبوك وإنستغرام؟ وكم من شخص تخلى عن ذاته وتقاليده وعاداته وقيمه ليتبع ركب الإثارة؟

عالم السوشيال ميديا، جاء ليسهل حياتنا وتواصلنا، لكننا استخدمناه ليبعدنا عن الواقع، عن حياتنا الفعلية، عن سنوات عمرنا التي نقضي أغلبها ونحن نتصفح هواتفنا، نعلق لهذا ونسخر من ذاك، ونتأمل عالما عجيبا سرقنا من أنفسنا ومن أهلنا والمقربين، عالم عمّق عقدة النقص لدى الأغلبية وسجنهم في حياة افتراضية، كل شيء فيها “مزيف” وافتراضي، بداء من حب الحياة وصولا إلى الحياة الحلوة والفرح والتعزية والألم والكتابة وحتى العراك.

السوشيال ميديا نجحت في تفرقتنا، بين من يعيش في الافتراضي ونسي حياته الحقيقية ومن أخرجه العالم الافتراضي من بشريته وبين من لم ير في الحياة سوى جانبها المظلم فكرهها ودخل دوامة التشاؤم والاكتئاب والرغبة في أن يصبح مثل الآخر. والحقيقة أن الاختلاف سنة كونية وأن حياتنا الحقيقية خارج أسوار الافتراضي، هي الحلوة.

18