"الحياة تشبه السيرك".. حضر الكيتش وغابت الدهشة

يعيش بعض الفنانين التونسيين خيبات نفسية متتالية وسط ما يحدث داخل الساحة الفنية التونسية الحالية، أين تتعدد التظاهرات الفنية الارتجالية وتتفرع تحت مسميات شتى كأيام الفن المعاصر وبيناليات الفنون والصالونات الوطنية والمعارض السنوية المبتذلة والتظاهرات الجمعياتية العشوائية، كما يتكاثر منتحلو صفة الفنان ومتبجّحو المعرفة والربوبيّة عن وفي الفن، تلك الصفة التي غالبا ما تخذل المتلقي وتجعل فكرة الإبداع مجرد مصطلح هلامي بعيدا كل البعد عن الواقع والحقيقة.
في خضم كل ذلك، لفت انتباهي مؤخرا عنوان معرض فني جماعي هو "الحياة تشبه السيرك"، والذي أقيم بأحد الأروقة الفنية المعاصرة المتواجد بأحد المناطق التونسية الراقية، مع مشاركة مجموعة من الأسماء الفنية المعروفة وأخرى واعدة وتحت رعاية صاحبة الرواق المادية والمعنوية. وفي الحقيقة، تحمّست لفكرة "الحياة السيرك" أو ما كنت أراه وأتوقّعه كموقف فنيّ جريء وساخر من اللعب الاعتباطي الذي نعاينه يوميّا بالبلاد والعباد، لقد تأملت أن يُخرجني المعرض من صورة المعارض النمطيّة التي تتّكل على اللّوحات المؤطّرة والمنحوتات الجامدة والجدران الملوّنة، لقد انتظرت أن يحملني إلى "الدهشة" في سيرك لا أعرفه وفضاء خارج كلّ توقعاتي.
لقد صرّح ذات مرة الفنان الفرنسي بول سيزان تصريحه الشهير التالي "بتفاحة سأدهش باريس"، وقد غير عبر رسوماته جملة الموروثات التقنية والبصرية في تاريخ الفن. لقد فتح آفاقا غير محدودة للتعبير وساهم في قلب الموازين جميعا، وأَعْتَقدُ أنّه توصل في ذلك الوقت إلى معنى الفن وجوهر العملية الإبداعية المتمثلة في ذلك الشعور السحري وهو الدهشة.
لقد تغيرت المفاهيم التي يقوم عليها الأثر الفني منذ ذلك الحين نظرا لكل التطورات الاصطلاحية والتقنية والتكنولوجية وتغيّرت معها مقتضيات العمل الإبداعي الحقيقيّ وأشكال إثارة المتلقي.
أين السيرك؟
بعد التنويه بأجواء السيرك المستنسخة والافتتاحيّة العظيمة عبر الستائر والحيطان الحمراء والأضواء الساطعة وأقنعة المهرّجين والحلويات المتنوعة وأجواء البهلوانيات الطفوليّة وكلّ أشكال الكيتش المعروفة عن السيرك، وقد ظلّت أغلب الأعمال مؤطّرة أو منتصبة تصوّر شكل المهرّج أو لاعبي السيرك مع الحيوانات والملابس والجزئيات المتداولة والتي سبقها إليهم العديد من الفنانين منذ عقود أمثال الكسندر كالدار ومارك شاغال وتولوز لوتراك وفرناند ليجار وغيرهم، بعد كلّ ذلك لم أتعرّف حتى على السيرك الذي أعرفه ولم تصبني الدهشة، على العكس تماما خذلتني توقعاتي هذه المرة أيضا بل أكثر من ذلك اعتراني غضب شديد من نفسي ومن معاملتي على أنّني حمقاء، إذ "يمكن لأيّ أحمق أن يعرف، فالصعوبة تكمن في الفهم لا في المعرفة".
إن سلّمنا بأنّنا نشاهد ما نعرفه، فأين هو الواقع؟
كلّ من ذهب إلى السيرك فقد كان ينتظر "عرضا" يقوم على "المخاطرة" وتكرارها، ولكن تقبّل التكرار والاستئناس به يجعل من إمكانية الفهم عسيرة إن لم تكن مستحيلة. يكمن السرّ في الإتقان والقدرة على صقل الموهبة، لذلك ما يمكن أن يدهشني وأنا في سنّ الثامنة لا يمكن أن يثيرني الآن بأيّ شكل من الأشكال. يقوم السيرك على مبادئ أساسيّة هي: اللّعب والجماعة والليونة والحركة والدُّربة والثقة والخفّة والسحر والرشاقة والقوّة والمغامرة، ولكنّ الأهمّ من كلّ ذلك هو مبدأ جذب وإسعاد الآخر الذي يخفي جوانب كالكذب والتملّق والغضب والكره والخوف والإخفاق، يذكرني كلّ ذلك بالفيلم الأميركي الحدث "الجوكر" "الذي يجد نفسه في بعض الأيام مهرّجا عابثا، وأياما أخرى قاتلا سيكوباتيا. فهو بلا شخصية محددة، يُعيد اختراع ذاته في كل يوم ويرى نفسه ملكا للتمرد والعالم مسرح العبث الخاص به". وهنا تصبح فكرة البحث عن عمق الأشياء مرعبة وسط هذا التشابه المقيت للأشياء، ليبقى الركون إلى ما هو معروف الحلّ الأنسب الذي يختاره الجميع أو الحمقى الذين "وحدهم يجدون الحياة بسيطة" كما يقول الكاتب الروسي مكسيم غوركي.
عمل استثنائي

وَجدتُ السيرك في "أحنا في تونس، عايشين عبارة في سيرك: سيرك سيدي صالح، سيرك الدندان، سيرك البحر الأزرق، سيرك باردو." هكذا تُعَنوِنُ الفنّانة منى الجمل مجموعتها الخماسيّة المصوّرة لتذكر مناطق تونس الأكثر شعبيّة وتهميشا، وأعمال منى هي أحد الاستثناءات الثلاث من جملة أعمال المشاركين الـثمانية عشر المتواجدين في المعرض والتي قرأتُ فيها أهمّ معاني "السيرك" وهو التوغّل في صور الواقع. لقد صوّرت الفنّانة مواطن المهمّشين وأماكن المنبوذين والفقراء والفوضويين.
كما وَجدت منحوتة "وجه المهرّج" التي قدّمها النحّات عبد السلام بن عياد مدهشة، فقد تمكّن الفنّان من استحضار الشخصيّة المريضة والبائسة تماما كبطل فيلم "الجوكر" الذي كان "موهوم تماما، لكن الحفاظ على هذا الوهم له أهمية وجودية بالنسبة إليه حتى يُبقي على الحد الأدنى من المعنى والهدف في حياة كل ما فيها بائس". تبعث المنحوتة على حزن وغضب شديدين من كل شيء، من الوعود والانتظار والآمال الزائفة التي يمكن أن يعيش عليها شخص ما ثم ترميه إلى الخذلان واليأس. يحيلنا النحّات إلى بشاعة الحقيقة المخفية تحت القبعات ووراء الأقنعة، وإلى زيف التوقعات وسط مشهد ضبابيّ، ويحملنا على التفكير في الأكاذيب التي ننتجها باستمرار كالبالونات المنتفخة بالفراغ، ذلك الوجه المرعب فينا القابل للانفجار أو الصراخ في أي لحظة.
أمّا العمل الثالث الذي جلب انتباهي فهو للفنّان المعاصر عُمر باي ويتمثّل العمل في تنصيبة تحت عنوان "لاعب العرائس". يطرح عمل هذا الفنّان كالعادة مواضيع واقعيّة حارقة بطرق وتقنيات حديثة، حيث اختزل عمر باي كلّ ما يمكن أن يقال حول وضع البشر في فكرة "لاعب مجهول" أو (يد بشريّة غير معرّفة)، تلك التي تسيّر الكلّ وفق مبادئ غير أخلاقيّة كالنصب والاحتيال والسرقة والتغوّل والعنف، يد السياسيين والمتحيّلين والمجرمين والوصوليين. كما يضعنا العمل أمام تساؤلات من قبيل: هل نحن فعلا مجرّد عرائس بريئة؟ ألا نشارك بطريقة ما في بشاعة هذا العالم عبر الصمت والمسايرة؟ وهل نحن حقا خارج المعركة حين ننشد السلام المزعوم؟.

وبالرغم من هذه الاستثناءات البسيطة التي ضاعت وسط تكرار قاتل لبعض الأعمال المعروضة فإنّني خرجت من الرواق وأنا أفكّر في السيرك "المهزلة" الذي تحدّث عنه تشارل بوكوفسكي فربما لم تكن منطقة رواق العرض قريبة بما يكفي إلى الوجه الحقيقي للشارع التونسي ولكل تلك الفوضى الرماديّة التي نعيشها، يقول بوكوفسكي "أجلس في السرير هنا، شاعرا بالحزن على كلّ شخص.. على كلّ الناس الذين يكافحون في كلّ مكان.. إنّه شيء مُجهد جدّا ولا يتوقف حتى آخر يوما لك، يا له من سيرك، يا له من عرض، يا لها من مهزلة".
أين السيرك؟ أين الدهشة؟