"الحياة بعد كافكا" رواية تكشف الوجه الآخر لظل كافكا

تأتي رواية "الحياة بعد كافكا" لا لتهتم بالأدب السوداوي الذي كتبه فرانز كافكا وإنما لتكشف جوانب منسية من حياة هذا الأديب، ومنها ما يتعلق بحياته الشخصية والعاطفية التي تعرف عنها خطيبته فاليسا باور الكثير، فقد احتفظت على امتداد أربعة عقود برسائله واقتربت كثيرا من عوالمه النفسية والشخصية.
تنطلق رواية “الحياة بعد كافكا” للكاتبة التشيكية ماجدلينا بلاتسوفا من حالة وجودية تشكلت على وقع طرد مجتمع المثقفين اليهود من براغ، وكان من نتيجتها أن فر بعضهم إلى إسرائيل مثل ماكس برود، والبعض الآخر إلى إيطاليا مثل غريتا بلوخ، أو الولايات المتحدة مثل فاليسا باور خطيبة فرانز كافكا، الروائي الذي تربع على عرش الأدب السوداوي في القرن العشرين. تتبع الرواية مصير باور وطبيعة علاقتها بالأديب ومصير رسائله التي كتبها لها قبل هجرتها إلى الولايات المتحدة وفي إطار علاقة امتدت لخمس سنوات.
الرواية التي ترجمها خالد البلتاجي وصدرت أخيرا عن دار نشر المحتوى العربي، وفقا له ذات أهمية خاصة كونها تكشف علاقة لم ينتبه إليها بالتدقيق أحد من الذين اشتغلوا على حياة كافكا وأدبه.
رواية عن الرحيل
"الحياة بعد كافكا" للكاتبة ماجدلينا بلاتسوفا تنطلق من حالة وجودية تشكلت على وقع طرد مجتمع المثقفين اليهود من براغ
يقول البلتاجي “لم يبلغ البحث والتفتيش في حياة أديب في القرن العشرين ما بلغته سيرة كافكا. صدر خلال عقود عدد لا يحصى من الدراسات والسير والكتب والمقالات التي تناولت حياة هذا الأديب من جوانب متعددة، كما ظهرت الكثير من الأعمال السينمائية والمسرحية المستوحاة من أعماله. انتقل الاهتمام بشخصية كافكا إلى كل من ظهروا من حوله، وفي مقدمتهم ماكس برود، صديقه ووكيل أعماله وأكبر معجبيه ومناصريه الذي أولى اهتمامًا كبيرًا بمخطوطات ابن براغ بعد موته عام 1924، على خلاف رغبة الأديب، وهو الأمر الذي استرعى الكثير من الاهتمام وصار موضوعا للمقالات والدراسات.”
ويضيف أنه “رغم كل هذا الاهتمام بسيرة كافكا إلا أننا لا نعرف الكثير عن واحدة من أهم الشخصيات التي ظهرت في حياته وهي خطيبته فاليسا باور. ومن الواضح أنها لعبت دورا مهمًا في حياة الأديب. يؤكد هذا كتاب ‘رسائل إلى فاليسا’ الذي تبلغ صفحاته ألف صفحة، يضم الكتاب أيضًا رسائل إلى غريتا بلوخ، فضلا عن دراسة مستفيضة بقلم الباحث التشيكي راينر ستاخ يتحدث فيها أيضًا عن فاليسا باور. لكن الأديبة التشيكية ماجدلينا بلاتسوفا التي حاضرت في الولايات المتحدة عن كافكا عام 2010 ثم أجرت لقاءات مع ابن فاليسا أرادت التعمق في طبيعة هذه المرأة التي تربطها بماكس برود علاقة أسرية، بصفتها من أحد أقربائه، وبفضل لقاءاتها مع ابنها المدعو يواخيم ظهرت رواية ‘الحياة بعد كافكا’.”
ويوضح الكاتب أن “بلاتسوفا تدعي في صدر الرواية أنها ليست سيرة ذاتية، بل هي رواية تظهر فيها بعض الشخوص ذات الصلة بشخصيات حقيقية، وبعض النصوص الأصلية. تصف بلاتسوفا في الفصول التي تعود إلى عامي 2019 و2020 استعدادها لكتابة الرواية، وتتبع خطى فاليسا باور التي تزوجت بعد انفصالها عن كافكا وأنجبت طفلين ثم هاجرت إلى الولايات المتحدة، تبحث كذلك عن شخصيات أخرى لعبت دورا في حياة كافكا ومن بينها المترجمة (ف) التي ترجمت إلى التشيكية رسائل كافكا إلى فاليسا، واسمها فيولا فيشر. نحن إذن أمام رواية متعددة الطبقات، رأت الأديبة عملية البحث والتقصي جزءًا أصيلا منها، والباحث هي الأديبة نفسها التي بنت الرواية على أشخاص حقيقية.”
الروائية ركزت على الحب في الرسائل حيث تبادل فرانز كافكا ستمئة رسالة وبطاقة بريدية مع خطيبته فاليسا
ويؤكد البلتاجي أن “الحياة بعد كافكا” هي رواية عن الرحيل، سيرة تقرب لنا جزءا بعينه من العالم في لحظة بعينها حسب شخوص مرسومة بدقة. إن كنا نبحث عما يشبه الحبكة في الرواية فلن نجد سوى محاولة الناشر سالمان شوكيين الحصول على الرسائل التي كتبها كافكا لخطيبته، وابن فاليسا الذي صار جزءا من صفقة بيع الرسائل لشوكين وكذلك ماكس برود.
تتبع الرواية خيوطا أخرى، منها مسألة ابن كافكا من غريتا بلوخ، الذي يظهر في الرواية وهو يحاول جمع معلومات عن أمه التي تخلت عنه وأودعته أحد ملاجئ الأطفال، تتتبع كذلك مصير ابن فاليسا الذي يظهر في الرواية باسم يواخيم. في هذه الرواية الصغيرة نسبيًّا نجد الأديبة تفتح قضايا شائكة غير دارجة، أهمها قضية رسائل فاليسا إلى كافكا التي اختفت، ولم يكن كافكا وراء اختفائها، حسب الأديبة.
ويوضح الكتاب فصولا قصيرة كثيرة تتأرجح بين الأزمنة، الجزء الرئيسي منها يدور في الفترة من 1935 إلى 1960، وتدور أحداثها في مدن عديدة؛ نيويورك وليون وباريس وجنيف وتل أبيب. لا تظهر ضمن الرواية أحداث التاريخ التي تركت أثرها على البشر، بل تظهر على خلفيتها، مثل كافكا نفسه الذي يظهر كجزء من الذكريات، أو كشبح يلاحق فاليسا باور وغيرها، ظل نادرًا ما يظهر، وإن ظهر يصبح ثقيلا.
انطلاقا من هذه الرؤية للبلتاجي ومع قراءة الرواية، نرى أن الروائية بدأت بالبحث عن آثار خطيبة كافكا فاليسا باور في الولايات المتحدة في عام 2010، عندما كان ابنها لا يزال على قيد الحياة. وقد أسفر اللقاء معه ومع عائلته عن أسرار لا تضيء حياة فاليساوعلاقتها ومراسلاتها مع كافكا فحسب، بل تتحدث أيضا عن أشخاص آخرين كانوا قريبين من كافكا بطريقة ما وكانت مصائرهم مرتبطة بأوروبا ما قبل الحرب العالمية الثانية وأطلالها بعدها، مثل غريتا بلوخوفا وإيرنست فايس وماكس برود وسالومون شوكين الذي نجده يعض إصبع الندم بعد رحيل كافكا المؤسف قائلا “لو أننا عرفنا وقتها ما يخبئه لنا القدر، وقيمة ما كنا نملكه؛ وكم هو ثمين، لأكبرناه بما يستحق. والآن ليس في أيدينا سوى اصطياد أشلاء سفينة غارقة.”
أفكار فاليسا باور
إنها رواية مستوحاة من مصير فاليسا بعد كافكا، المرأة المعروفة لدى أجيال من معجبي كافكا لكن أحدا لم يسبر أغوارها وأغوار علاقتها بكافكا. هذه الشخصية هادئة وذات قلب مرح، وهي المرأة التي ضحت من أجل أسرتها، ثم وقعت في حب رجل فشل في بناء علاقة ناجحة بعد خِطبة تكررت مرتين مع المرأة نفسها.
تحاول الرواية الإجابة عن هذا السؤال: إلى أي مدى بلغ ظل كافكا في حياتها؟ حيث لم يعتقد مؤرخو الأدب أبدا أن الأمر يستحق الدراسة بشكل مستقل، ولا يُعرف سوى القليل عن حياتها بعد هجران كافكا لها ورحيلها من براغ. هاجرت فاليسا إلى الولايات المتحدة بعد أن تزوجت في ألمانيا من رجل أعمال ثري وأنجبت طفلين. واحتفظت لمدة أربعين عاما برسائل الرجل الذي تخلى عنها.
لقد تمكنت الروائية من سبر أغوار فاليسا الداخلية، بعد تفحص كتاباتها ورسائلها، والتعرف عليها عن قرب عبر لقاءاتها مع أفراد عائلتها.
توفيت فاليسا، التي كانت أصغر من كافكا بأربع سنوات، في الولايات المتحدة عام 1960. أخفت رسائل كافكا عن أسرتها، وحافظت عليها طوال حياتها في صندوق حملته معها في ترحالها. كتب لها كافكا رسالته الأولى في 20 سبتمبر 1912، وفي 23 مارس 1913 وصل إلى برلين، وإن كان على مضض. منذ تلك اللحظة، لم تعد فاليسا “الوجه الفارغ” الذي أعطته شهواته وخيالات ملامحها، بل امرأة من لحم ودم تهرب منه على الفور.
يسألها فرانز ويلح في طلب معلومات عن كل ساعة من يومها، لا يكتفي من صور الفتاة -فاليسا- ذات الفم الكبير المبتسم، يرسل صوره الخاصة ويحكي لها عن الحياة في براغ التي سئم منها، وعن خطته الانتقال إلى برلين ليعيش معها هناك: “أن أكتب ولا أكتب، أن أكتب أكثر مما ينبغي، أن أكتب أقل مما ينبغي،” كيف استطاعت فاليسا المرأة العملية الصارمة شديدة التنظيم أن تفهم كلمات كافكا الغامضة ولغته المعقدة، وقراراته المترددة، ودور الكتابة في حياته، كيف استطاعت التعاطي مع شطحاته وهواجسه.
قبل أن يواجه القارئ الرواية فعليًا، قبل أن يبدأ في قراءتها، فإنه يدرك إشارات مختلفة، يتم إرسالها من قبل المؤلفة نفسها: “أنا لست باحثة أدبية، كان نهجي تجاه كافكا دائمًا غريزيًا ومباشرًا وبديهيًا،” أو”هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية تاريخية!”
يتصفح القارئ الصفحات تلو الصفحات ويرى أن الرواية مليئة بالأسماء، بعضها مألوف للوهلة الأولى. فهو يتعرف، إلى جانب فاليسا باور وفرانز كافكا، على سبيل المثال، على ماكس برود وغريتا بلوخ وإلياس كانيتي، يتصفح صفحات الكتاب ويلاحظ أن بعض المقاطع مكتوبة بالخط المائل؛ ربما كانت وثائق أو مراسلات أو ربما حتى مقالات مقتبسة.
وفي جدول المحتويات يقرأ عناوين الفصول “1935: جنيف”، “1938: باريس”، “1950: نيويورك”. ربما تكون رواية وثائقية، أو شيئا من هذا القبيل، سيرة ذاتية خيالية لفاليسا باور، التي عاشت بعد كافكا ستة وثلاثين عامًا. وربما تكون دراسة للعلاقة بين فرانز كافكا وفاليسا، التي يخاطبها مئات الأشخاص.
ولكن بعد ذلك، في جدول المحتويات، يصادف فصولا تحمل عناوين مثل “2019: ليون” و”2020: ليون” و”2011: وادي نهر هدسون”، أو مقابلات في وسائل الإعلام المختلفة.
وركزت الروائية على “الحب في الرسائل” الذي كان واضحا، حيث تبادل فرانز كافكا ستمئة رسالة وبطاقة بريدية مع فاليسا، تكشف تطورات العلاقة الأطول عمرا والأكثر تعقيدا في حياته، وهكذا أصبحت فاليسا في الرواية شخصية تاريخية مكرسة لخيال الروائية الرومانسي.
تحدثت الأديبة أيضًا عن “سم الرسائل” التي أرسلها إليها وإلى غريتا بلوخ في الوقت نفسه: “ماذا أرادت بما فعلت؟ وماذا أراد هو حين تراسل معها من وراء ظهرها؟ كان فرانس ينوي الزواج، لكن ماذا عنها؟ هل أرادت أن تسرقه منها؟”