الحل في تونس: مؤتمر للمانحين وليس تسويات سياسية

التونسيون يحتاجون إلى التهدئة بين السياسيين لتأمين جهود لحل الأزمة الاقتصادية.
الأحد 2023/01/08
الأزمة الاقتصادية أم المعارك.. الخلافات السياسية لا تعني التونسيين

مبادرات كثيرة طرحتها أحزاب وشخصيات تونسية تتحدث عن “حلول” للخروج من الأزمة، لكنها تشترك في أرضية واحدة وتنظر فقط إلى الجانب السياسي من دون مقاربات جدية تبحث عن تسوية تونسية – تونسية للإصلاح الاقتصادي، وليس استثمار الأزمة لتحقيق مكاسب سياسية.

تونس لا تحتاج إلى تسوية سياسية جديدة بقدر ما تحتاج إلى مؤتمر مانحين على شاكلة لبنان يضغط فيه الخارج على الطبقة السياسية واتحاد الشغل للالتزام بتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية العاجلة وفق برنامج مرحلي واضح، والتوقف عن إغراق البلاد في المبادرات و”خرائط” الطرق التي تخدم الأجندات الشخصية والحزبية.

مع كل يوم تسمع بمبادرة جديدة، من أطراف مختلفة ومتناقضة، بعضها من المعارضة الراديكالية، لكن أغلبها من المعارضة التي يمكن وسمها بشبه معارضة – شبه موالاة، فهي تدعم مسار 25 يوليو 2021 الذي قاده الرئيس قيس سعيد، لكنها في نفس الوقت تقترح “حوارا وطنيا” يقبل به الرئيس سعيد، وتشكيل حكومة “سياسية” أو حكومة “إنقاذ اقتصادي”.

أغلب مبادرات شبه معارضة – شبه موالاة تريد أن تلفت نظر الرئيس سعيد بأنها معه وفي صفه، لكن عليه أن يتخلى عن حكومة بودن، ويلتفت إليها هي بتلويناتها المتعددة واستيعابها في حكومة جديدة تتولى “إصلاحات” المرحلة القادمة.

المفارق هنا أن هذه المجموعات، وأغلبها محدودة العدد، وهي تنظيمات إعلامية أكثر منها تنظيمات سياسية على أرض الواقع، كانت دعّمت خيار قيس سعيد في حل البرلمان وتجميع كل الصلاحيات بيده بما في ذلك تشكيل الحكومة وإقالتها والتعديل عليها، وإصدار المراسيم التي تمكنه من تنفيذ برنامجه، وحثته على عزل الأحزاب وتهميشها، فما الذي تغيّر لينقلب هؤلاء على مواقفهم ويطالبوا الرئيس بأن يكون رئيسا بصلاحيات محدودة، وأن يترك لهم الحكومة، وأن يمهد لهم طريق الحكم تحت جلبابه، وهم يعرفون أن الرجل لا يقبل أن يحكم سوى لوحده.

لن يفيد المعارضة التصعيد، ولن يفيد قيس سعيد الاستمرار في تحميل المسؤولية إلى الآخرين فيما هو يحكم ويدير مختلف التفاصيل لأكثر من عام ونصف العام

هذه الموجة من المبادرات جاءت مباشرة بعد نتائج الانتخابات التشريعية التي كشفت عن عزوف التونسيين عن كل ما هو سياسي رسمي أو معارض، ولعبت الإشاعات دورها في الإيحاء بأن قيس سعيد فشل في التغيير، وأن الطريقة السهلة للخروج من الوضع الحالي، وهو استعادة تجربة الحوار الوطني التي تمت في 2013، وتمكين المنظمات الوطنية برئاسة اتحاد الشغل من لعب دور “وفاقي” يفضي إلى تشكيل حكومة جديدة لتنفيذ برنامج الاتحاد أو ما دأب على تسميته بخارطة الطريق.

بالتأكيد، فإن الوضع مختلف تماما بين 2013 و2023، وقيس سعيد ليس في وضع شبيه بوضع الترويكا الضعيفة الخائفة التي وجدت في الحوار الوطني فرصة في تخفيف الضغوط عنها، والوضع السياسي مختلف جذريا أيضا، ففي 2013 شهدت تونس عمليات إرهابية ومناخا أمنيا صعبا كان يهدد وحدة البلاد، لكن الآن الوضع مستقر سياسيا وأمنيا بشكل كامل.

المشترك في حوار 2013 و2023 هو الأزمة الاقتصادية، علما أن هذه الأزمة هي نتاج للخيارات الاقتصادية الكبرى التي اعتمدتها الحكومات التي جاءت بعد الحوار الوطني، وهي خيارات وضعها هذا الحوار ووافق عليها اتحاد الشغل، وهو ما يعني أن الاتحاد يريد للتونسيين أن يجربوا المجرب، أي أن يعيد تطبيق نفس السياسات التي وضعها في “خارطة الطريق” التي مررها في حوار2013 وقادت البلاد إلى ما هي عليه.

مع العلم أن الاتحاد كان طرفا في الموافقة على حكومات ما بعد 2013 من حكومة مهدي جمعة ثم حكومة الحبيب الصيد، وبعدها حكومة الشاهد، ثم إلياس الفخفاخ، وهي الحكومات التي ورثت عنها حكومة هشام المشيشي ثم نجلاء بودن الأوضاع الصعبة.

وبالنتيجة، فإن المبادرات وخرائط الطرق التي تطرح من هنا وهناك تبحث لأصحابها عن أدوار جديدة في الوقت الذي قطع فيه قيس سعيد الطريق أمام الجميع للتدخل في الشأن السياسي الرسمي والحكومي، وتركهم على الهامش خاصة أولئك الذين كانوا يتوقعون بدعمهم لإجراءات 25 يوليو 2021 أن يكونوا في الصفوف الأولى لاعتقادهم أن رئيس الجمهورية الذي لا حزب له سيكون في حاجة إليهم من أجل تأمين حكمه، وفيهم من عرض أن يكون “حزب الرئيس” و”ذراعه اليمنى”.

ماذا يفيد قيس سعيد استدعاء نجيب الشابي للتحقيق، فالرجل شبه منته بعد أن تنقل بين أحزاب وتحالفات كثيرة
ماذا يفيد قيس سعيد استدعاء نجيب الشابي للتحقيق، فالرجل شبه منته بعد أن تنقل بين أحزاب وتحالفات كثيرة

لكن المشكل الأعمق هو أن خلاف الرئيس مع معارضيه أغرق تونس في أزمة مستمرة تحصر الحلول في القضايا السياسية؛ فالمعارضة بوجهيها الراديكالي و”الشبه شبه” تضغط وتتحرك لاستمالة الخارج والإيحاء بأن أزمة حادة في البلاد تحتاج إلى تغيير سياسي و”تنحية” قيس سعيد الذي “فشل” في إدارة الدولة، فيما الرئيس سعيد يستمر في خطاباته اليومية في الهجوم على المعارضة وتخوينها وتحميلها مختلف الأزمات.

التونسيون يحتاجون إلى التهدئة بين السياسيين من أجل تأمين الجهود لحل الأزمة الاقتصادية الحادة. لن يفيد المعارضة التصعيد، ولن يفيد قيس سعيد الاستمرار في تحميل المسؤولية إلى الآخرين فيما هو يحكم ويدير مختلف التفاصيل لأكثر من عام ونصف العام.

من المهم أن يفهم رسالة التونسيين التي وصلته من خلال نتائج الانتخابات ومفادها أن الناس لم يعودوا مهتمين بالسياسة والخلافات والصراعات وحتى الوعود. ما يهمهم إدارة الأزمة الاقتصادية وتقديم حلول يرون نتائجها بأعينهم.

ماذا يفيد قيس سعيد استدعاء نجيب الشابي للتحقيق، فالرجل شبه منته بعد أن تنقل بين أحزاب وتحالفات كثيرة، على أمل أن يعود إلى الواجهة، وكان آخر مغامراته التحالف مع النهضة رغم ميراث الخلاف بينهما ومعرفته بأنها تستخدمه وتستخدم جبهة الخلاص كواجهة تتحرك بها في محيط سياسي يرفض أن يلتقي معها بأيّ صيغة وتحت أيّ مظلة ولو ظرفية.

لا قيمة لتسوية سياسية في تونس لا تأخذ بعين الاعتبار حل الأزمة الاقتصادية

لقد عاش التونسيون منذ 2011 على وقع معارك السياسة والسياسيين ولم تجلب لهم حلولا، وهو ما يعني أن أيّ تسوية سياسية جديدة في شكل “حوار وطني” أو مبادرات مدعومة خارجيا، لن تجلب أيّ تغيير بالنسبة إلى المواطنين. صحيح أنها ربما تمتص الاحتقان السياسي الحالي، أو أنها ستمكن بعض السياسيين الموضوعين على الهامش من إعادة الاندماج في السلطة. أكثر من ذلك لن تجلب شيئا، هي فقط ستضيّع على تونس أربع أو خمس سنوات قادمة من انتظار الحلول.

لا قيمة لتسوية سياسية في تونس لا تأخذ بعين الاعتبار حل الأزمة الاقتصادية، طبعا بعيدا عن الشعارات التقليدية الواهمة التي تبحث عن حل بالاعتماد على الذات وفي نفس الوقت استمرار الدولة في الإنفاق السخي. لا حل يمكن أن يتحقق دون إصلاحات اقتصادية جدية ترفع من منسوب الثقة لدى الجهات المالية الدولية بالاقتصاد التونسي.

تونس في حاجة إلى تمويلات واستثمارات، وهذا لا يتأتى سوى من الخارج. وكله مشروط بالإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي. وهو ما يعني أن الحلول الهلامية لم تعد تسمح بالحصول على التمويلات، والأكثر من ذلك أن القروض والاستثمارات باتت مرتبطة برأي صندوق النقد وتصنيفات المنظمات المختصة، فلا يمكن الحصول على تمويلات أو استثمارات خليجية بشكل مباشر إلا بعد أن يقول صندوق النقد إنه موافق.

وهذه حقائق لا يستوعبها السياسيون في السلطة أو في المعارضة إلى حد الآن، ويعتقدون أنهم يمكن القفز عليها، وهذا ما حصل بالضبط مع لبنان، الذي ظلت طبقته السياسية تؤجل الإصلاحات لسنوات حتى وصلت للحظة قال فيها المانحون الأجانب إنهم لن يدفعوا دولارا واحدا قبل إقرار الإصلاحات، والتي أساسها ضبط آلية للتقشف في المال العام وتوجيه التمويلات للاستثمار.

ربما يحتاج التونسيون إلى بعض الوقت ليصلوا إلى هذه الحقيقة، لكن القراءة السليمة تدفع إلى ميثاق وطني يُلزم الجميع بتبني الإصلاحات في أقرب وقت وتأمين المناخ السياسي الذي يساعد على جلب تعاطف الممولين مع البلاد، والدعوة إلى مؤتمر مانحين يساعد تونس على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.

ألا يحتاج هذا إلى تسوية سياسية اليوم قبل الغد.

6