الحلم والهذيان سيّان في سوريا الجريحة

"بوابات" عرض مسرحي سوري يجسد أربع شخصيات غير سوية تحلم بوطن سوي، تقف دونها بوابات من الهلوسات والهذيان المرضي المُحبط للأمنيات.
الاثنين 2019/12/16
فوضى المكان والإنسان

في عمله المسرحي الجديد “البوابات” يستعرض المخرج المسرحي السوري مأمون الخطيب قصة تدور حول مجموعة من الشباب السوريين بمكان يفترض أنه المطار، وأثناء وجودهم يبدأ السفر بالحلم والتوقع بحياة جميلة في الخارج، لكن في النهاية يتبيّن أن الحلم موجود فقط في خيالهم.

 دمشق – تطرح المسرحية السورية “البوابات” إشكاليات إنسانية عديدة وعميقة ضمن المسارات الدرامية التي أوجدتها، فالنص الذي كتبته نسرين فندي ومأمون الخطيب، يستعرض عوالم داخلية لأناس مُهمّشين، يقدّمهم العرض في إطلالة تمهيدية على أنهم مجموعة من المسافرين الذين ينتظرون مواعيد إقلاع طائراتهم متوجهين لمقاصدهم المختلفة، والتي هي جميعها بلدان أوروبية.

وفي العرض الذي أخرجه مأمون الخطيب، وبطولة كلّ من: إبراهيم عيسى ونسرين فندي ورشا الزعبي وسليمان رزق، ولوجٌ نحو عالم تجريبي يعتمد حالة من العبثية الفنية، التي يوظفها المخرج للوصول إلى مقولة النص الأساسية.

حوار ساخن

الحلم رديف للعيش
الحلم رديف للعيش

يبدأ العرض بمشهد عبثي، يضعنا ضمن فرضية أننا في قاعة انتظار في مطار، حيث يوجد أربعة مسافرين؛ رجلان وامرأتان، ينتظرون مواعيد إقلاع طائراتهم، وفي تقاطع خاطئ لمسير خطواتهم ينشأ بينهم سجال عنيف يبدأ بادّعاء إحدى السيدتين بأن أحد الرجلين قد تحرّش بها لمجرد أنه اصطدم بها دون قصد.

من هناك، ينطلق بينهم حوار ساخن لا يخلو من الاتهامات والتهكم والتهجم. وعبر هذا الحوار تبدأ الحكايات الدرامية بالتكشّف، فنعرف أن الشخوص الأربعة الذين نراهم في المسرحية، هم شخوص غير أسوياء، لكل واحد منهم حالة ماضوية مليئة بالمآسي والحرمان.

هناك السيدة الثرثارة التي لا تهدأ عن توجيه الاتهامات للغير بالتحرّش، فتسوق الاتهامات للجميع متناسية حقيقة أنها تعاني من الوحدة والإهمال، وما حقيقة سفرها لأوروبا، إلّا من أجل البحث عن مشروع حبيب هارب، أغلق حساباته على الإنترنت وانقطعت أخباره وهي تسافر للبحث عنه.

أما الشخصية الثانية، فهو ذاك العازف الذي تخرّج من الدراسة الأكاديمية، ونتيجة قلة فرص العمل، توجه إلى العمل في الملاهي الليلية مع الراقصات، ولم يكتف القدر بكيّه بنار الحاجة المادية، بل جعله أيضا فريسة لاحتيال البعض الذي عمد إلى تشغيله في تدوين عشرات الألحان، ثم أنكر عليه ذلك وطرده من العمل دون إعطائه أي حق مالي أو مهني.

الشخصية الثالثة، تتجسّد في الرجل الذي عانى كثيرا من العنف النفسي في حياته وصلت إلى حد إهدار كرامته أمام زوجته وابنه على يد رجل مسلح على حاجز، ليفقد إثر الحادثة الكثير من إنسانيته.

وفي موازاة ثلاثتهم، تحضر الشخصية الرابعة، الفنانة التشكيلية التي كانت على امتداد زمن العرض ترسم صورهم ووجوهم، وهي بدورها تعاني من صدمات نفسية عميقة تجعلها واحدة من الشخصيات المأزومة. هؤلاء الذين يقدّمهم العرض في استهلال مشهدي على أنهم في قاعة مطار، نكتشف من خلال تتابع الأحداث أنهم ليسوا إلاّ مجموعة من المرضى النفسيين الموجودين في غرفة في مستشفى للمجانين. وكل حالات السفر والأحلام التي تحدثوا عنها ما هي إلا أوهام وهلوسات مجموعة من المجانين، لا أكثر ولا أقل.

عرض “البوابات” يذهب بعيدا في الحديث عن هذيان الشخصيات الأربعة، التي تتكشّف من خلال حواراتهم، فأحدهم لا يحلم إلا بالعيش مع زوجته وابنه في مدينة نرويجية هادئة، حيث الشجر والماء والقليل من الناس.

أما الفنان الشاب فيسعى للذهاب إلى إيطاليا، كي يعزف في أزقتها وشوارعها دون أن يسأله أحد عن شيء. في حين تهذي المرأة الأولى ببحثها المضني عن حبيب، أو مُهتم على الأقل، يبعث فيها شيئا من الرغبة في الحياة، أما المرأة الثانية فيتصاعد هذيانها إلى ذروته وهي الباحثة عن مكان آمن تعيش فيه بعيدا عن الخطر.

نفس تجريبي

مأمون الخطيب يعرض الحلم كأسلوب حياة في مسرحية "البوابات"
مأمون الخطيب يعرض الحلم كأسلوب حياة في مسرحية "البوابات"

تعامل مأمون الخطيب مخرج العرض، مع أفكار العمل بنفس تجريبي، فسردية المسرحية كانت قائمة على شبكة دقيقة ومعقدة من الحوارات العنيفة حينا والهادئة حينا آخر، والتي من خلالها قدّمت الشخصيات واتضحت عوالمها. وهي البنية التي اعتمدت على الإيهام بوجودنا في مكان ما، ثم نتبيّن أن الأحداث تقع في مكان آخر.

وفي تقاطع مع هذه الحالة من السرد، تكوّنت حالة موازية من الشكل المسرحي المقدّم، والتي شملت الديكور والإكسسوارات والأزياء البسيطة، في فضاء اكتفى ببعض الكراسي وبعض الصور على الجدران، ليكون العرض وفيا لدلالاته العميقة التي أساسها الفراغ الذي يعيشه المرء وسط عالم مليء بكل شيء، إلا من بهجة أحلامنا.

مأمون الخطيب: الحلم ملاذ السوريين، ولا بدّ لنا من الحلم كي نعيش
مأمون الخطيب: الحلم ملاذ السوريين، ولا بدّ لنا من الحلم كي نعيش

عن فكرة التجريب التي كانت في العرض ومنهجه في التعامل معها، قال مأمون الخطيب لـ”العرب”، “عملت على فكرة التجريب من الخطوة الأولى في العرض الذي هو النص المسرحي، ثم تابعت في كل عناصر العمل سواء من حيث الديكور والإضاءة والماكياج والأزياء وحالة السينوغرافيا كلها، وصولا إلى الممثلين أنفسهم”.

ويضيف “الحالة التجريبية كانت موجودة بالشكل العلمي الذي يعرفه المسرحيون، هو حل عملت عليه لأنه يحمل إيقاعا مسرحيا جديدا لشكل مسرحي جديد، هو نمط يؤثر على مسار الفكرة وفضائها، لكنه
يقدّم حالة مسرحية منطقية بالنسبة لطبيعة الموضوع المطروح وغموض الشخصيات وأحلامهم، أنا مؤمن بأن هذه الأفكار يمكن تقديمها بالحالة التجريبية أفضل من تناولها بشكلها الطبيعي المعتاد”.

حفَل عرض “البوابات” بتقديم طيف من الأحلام التي راودت شخوصه، فالحلم ضروري، كما يؤكّد الخطيب “لولا الحلم لما استطعنا أن نعيش ونكون أناسا طبيعيين، الحلم هو الذي يصبّرنا كسوريين، هو العيش الذي به نمتلك غدا يحمل إمكانية أن يكون أفضل، وللأسف من الممكن ألا يكون كذلك، لكننا في كل الحالات لا بد من أن نحلم لكي نعيش”.

17