الحكومة التونسية تحتار في استرضاء ثلاث قوى ضاغطة

معركة الحكومة التونسية مع فقدان المواد الأساسية من الأسواق والتضخم المالي المهدد بانهيار العملة الوطنية لا تبدو سهلة أو محمودة العواقب وسط غضب شعبي تحاول القوى المناوئة أن تستغله لصالحها.
الأربعاء 2022/10/26
تونس في مواجهة صعوبات متشابكة

الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يُعدّ أكبر وأقوى وأعرق منظمة نقابية في البلاد، يستأثر بالقطاع العام أكثر من غيره، على وجه الخصوص، ويثبت قدرته في كل مرة على شل البلاد عبر الإضرابات وتحكمه في قطاعات ومرافق حيوية واسعة.

ولطالما وقف الاتحاد حجر عثرة مع تسلم كل حكومة جديدة السلطة في تونس، عند شروعها في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تنوي أن تقوم بإصلاحات تلتزم فيها بالعمل على تقليص كتلة رواتب الموظفين، وهو الأمر الذي يرفضه الاتحاد متذرعا بالحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن وحمايته من غول الخصخصة.

◙ صندوق النقد الدولي يمنح القروض بشروط مجحفة
صندوق النقد الدولي يمنح القروض بشروط مجحفة

“غول الخصخصة” هذا يعتبره البعض طوطما، وفزاعة تستخدمها المنظمة النقابية التي يفوق عدد منخرطيها المليون في البلد الذي تقدر فيه كتلة الرواتب بأكثر من 14 في المئة من ناتج الدخل الخام، وهو الرقم الأكثر ارتفاعا في العالم بحسب صندوق النقد الدولي. وبالفعل، نجحت المنظمة النقابية في ليّ ذراع الحكومة أكثر من مرة كان آخرها زيادة رواتب القطاع العام خلال الثلاث سنوات القادمة بنسبة 5.3 في المئة، لكنها اضطرت إلى الاستدانة من جديد، إذ توصلت الحكومة التونسية إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، يقضي بإقراض تونس 1.9 مليار دولار على 4 سنوات، بعد أشهر من المفاوضات.

وهكذا توقع الحكومة نفسها في دوامة شروط صندوق النقد الدولي وتعنت المنظمة النقابية مع استمرارها في الضغوط وسط أزمة اجتماعية خانقة. أما الخلل بل المطب الذي أوقعت الحكومة نفسها فيه فهو تراخيها وعدم اكتراثها بمطالب القطاع الخاص على غرار الأزمة مع  أصحاب المخابز الذين دخلوا الأسبوع الماضي، في إضراب عام، احتجاجا على تأخر الحكومة في صرف مستحقاتهم المخصصة لدعم الخبز، والمقدرة بسبعين مليون دولار.

لم يكن يدور في خلد الحكومة التونسية أن المبالغة في الانصياع لمطالب الاتحاد العام التونسي للشغل من خلال القطاعات التي يسيطر عليها ستؤثر سلبا على قطاعات خاصة أكثر حساسية من غيرها كما حصل مع أصحاب المخابز، بينما تبلغ قيمة دعم الخبز في تونس نحو 350 مليون دينار سنويا (نحو 150 مليون دولار)، يتم ضخها من الصندوق العام للتعويض، وهو صندوق تخصصه الدولة لدفع الفارق بين الأسعار الحقيقية للمنتجات والسعر المعروض للبيع للعموم.

قس على ذلك في قطاعات أخرى غفلت عنها الحكومة أو تراخت في الاستماع لمطالبها لفائدة القطاعات التي يسيطر عليها الاتحاد العام التونسي للشغل ويتولى الدفاع عنها مما ينبه الحكومة إلى ضرورة التنسيق في هذا المجال قبل أن تقع الفأس في الرأس كما يقال، خصوصا في هذه المرحلة الهشة والحرجة.

ولم يسبق لتونس أن واجهت مثل هذه الصعوبات المتشابكة في تاريخها الحديث والتي تجسّمت، وبحسب تقرير الحكومة التي ترأسها نجلاء بودن، في ضعف النشاط الاقتصادي على مدى أكثر من عقد من الزمن بسبب تعطل محركات النمو والشلل الذي أصاب العديد من القطاعات الإستراتيجية على غرار الفوسفات والمحروقات والسياحة إلى جانب ركود اقتصادي غير مسبوق. وأيضا الانخفاض الحاد للاستثمار الخاص بسبب عدم وضوح الرؤية والتعقيدات على مستوى الإجراءات والبيروقراطية التي أدت إلى المزيد من اهتزاز الثقة في البلاد. هذا إلى جانب تراجع الاستثمار العمومي جراء الضغوط المسلطة على ميزانية الدولة، ممّا أثر سلبا على الخدمات المقدمة للمواطنين من صحة وتعليم ونقل وبنية تحتية، وما إلى ذلك، بحسب تقرير الحكومة التونسية.

◙ المنظمة النقابية تمتلك القاعدة الأوسع في البلاد
المنظمة النقابية تمتلك القاعدة الأوسع في البلاد 

ولئن كسبت الحكومة التونسية معركتها ضد جائحة كورونا العام الماضي بفضل ما وفرته من لقاحات، فإن معركتها هذه المرة مع فقدان المواد الأساسية من الأسواق والتضخم المالي المهدد بانهيار العملة الوطنية، لا تبدو سهلة ومحمودة العواقب وسط غضب شعبي عارم تحاول القوى المناوئة أن تستغله لصالحها.

الأرقام المخيفة والتقارير المتشائمة التي تقدمها الدوائر الاقتصادية المحلية والدولية حول تونس، لا تأخذها المنظمة النقابية على محمل الجد، وإن فعلت ذلك فإنها لا توعزها إلى ارتفاع كتلة الرواتب في القطاع العام وعجز الحكومة عن العمل بنصائح صندوق النقد الدولي، وإنما لفشل مخططاتها التنموية بسبب تفشي الفساد والمحسوبية.

وفي هذا الصدد، اعتبر الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، حفيظ حفيظ، أن “ارتفاع كتلة الرواتب كذبة كبرى، والحديث عن ارتفاع عدد العاملين بالقطاع العام، هو كذلك كذبة كبرى”. وشدد حفيظ على أن “مسألة تقليص الرواتب غير مطروحة، وغير قابلة للنقاش”، مشيراً إلى أن “منظمة الشغل تطالب بالحفاظ على دورية النقاشات حول زيادة الرواتب كل 3 سنوات ضمن جولة مفاوضات اجتماعية جديدة”.

المشكلة كما يراها مراقبون ومحللون اجتماعيون من داخل تونس وخارجها، أن الأطراف النقابية والنخب الاقتصادية والسياسية المعارضة لبرنامج الحكومة، تقارن وضعية تونس بالبلاد المتقدمة في الغرب حين يكون الأمر لصالحها، وتحجم عن ذلك بدعوى أننا دولة محدودة الموارد، حين لا يتناسب طرحها مع الواقع.

الحصيلة أن الحكومة التونسية محتارة في معرفة من هو الطرف الأقوى كي تتمكن من استرضائه: أهو صندوق النقد الدولي الذي يمنح القروض بشروط مجحفة، أم المنظمة النقابية التي تمتلك القاعدة الأوسع في البلاد أم منظمات الصناعة والتجارة التي أثبتت بدورها أنها قادرة على شلّ البلاد.

9