الحقيقة بين الثبات والتحول

عادة ما نسمع أن هذا المعطى أو ذاك حقيقة لا غبار عليها، ثم يأتي من يفنّده بحجج وبراهين، تستوي في ذلك الحقائق الفكرية والعلمية والتاريخية، حتى ليحار المرء في معرفة الثابت من الحقائق والمتحول منها.
الخميس 2019/10/03
الحقيقة ليست واحدة (لوحة للفنانة ريم ياسوف)

إن السؤال عما إذا كانت الحقيقة نهائية، لا تراجع عنها، ولا شك فيها، ولا دحض لما تحمله، يحيلنا إلى البحث عن مفهوم الحقيقة نفسه، فقد اعتدنا أن نميز بين الحقيقة الشكلانية، المقبولة منطقيا، والحقيقة المادية، التي تتناسب مع أحداث تصفها. فصفة “النهائيّ” لا يمكن أن تطلق إلا على ما لا يمكن تحويره، ولو طبقناها على معنيي الحقيقة، فسوف نقرّ بأن ما يلبي المنطق وتَناسُب الخطاب والأحداث هو مكسب معرفي لا يقبل النقاش. ولكن هل يحترم كل خطاب عن الحقيقة هذا المعيار الفيصل؟ ألا توجد تأكيدات حقيقية أخرى يمكن وضعها موضع مساءلة؟ ولو سلمنا جدَلا أن الحقيقة غير ثابتة، فهل يصح أن نواصل الحديث عن حقيقة منفلتة؟

لقد شغل هذا المبحث الفلاسفة منذ القدم، واختلفوا في النظر إلى الحقيقة. كثير منهم يعتقد أن بعض الحقائق لا يمكن الطعن فيها من حيث المبدأ، مثل الحقائق المنزَّلة التي تنبني عليها المعتقدات الدينية، لأنها ليست نتاج بحث، بل هي من وحي العناية الإلهية. هذه الحقائق تزرع الإيمان في من يتلقاها، فلا يرضى لها صدّا حتى وإن كانت ضدّ مشيئته، كمثل سيّدنا إبراهيم حين أمره الله بذبح ابنه تضحية وقربانا. ذلك أن الكلامَ المنزَّل بالنسبة إلى المؤمن هو نهائي وحاسم لا جدال فيه. وهو ما يؤكده نيتشه في قوله “عندما نؤمن يمكن أن نستغني عن الحقيقة”، فالإيمان هنا ينوب عن الحقيقة.

كذلك الأحداث التاريخية، التي يعتبرها بعضهم حقائق ثابتة، لاسيما ما خضع منها لمواثيق ومعاهدات، حتى وإن اختلف معاصروها في شهاداتهم حولها، ولو أن أحد كبار القادة عبر التاريخ هو نابليون بونابرت ألمح إلى العكس في قوله “الحقيقة التاريخية هي في الغالب خرافة تمّ الإجماع عليها”.

نوع ثالث من الحقائق التي توسم بالنهائية، يخص المكتسبات العلمية التي أثبتت التجارب صحّتها على مرّ العصور، مثل مبدأ أرخميدس، ومركزية الشمس التي اهتدى إليها كوبرنيكوس، وكلتاهما تؤكد أن من خصائص العلم إقامة قوانين نهائية؛ غير أن بعضها الآخر مثل نظرية المكان الطبيعي لأرسطو وقع مراجعته على ضوء التقنيات الحديثة.

الحقيقة تستدعي إعمال النظر النقدي فيها، دون الوقوع في النسبوية، ولا في شك مطلق ينكر الحقيقة

أي أن الحقائق العقدية هي وحدها التي تتسم بالثبات وتكتسي شكلا نهائيا، بينما تظل الحقائق التاريخية والعلمية تتطور بتطور العلم والمعرفة والتكنولوجيا، فلا يستقر حولها رأي إلا لآماد قد تطول وقد تقصر.

ولو سلمنا أن هذه المسألة أو تلك باتت حقيقة ثابتة، فمعنى ذلك أننا أقلعنا عن إخضاعها للمساءلة، وحوّلناها إلى ما يشبه العقيدة، وبالتالي جعلناها غير قابلة للنقد، ما يعطل الفكر عن بلوغ الحقيقة، وإدراك مغازيها بالعقل، لا بالتسليم بما قاله الأولون. ولو نظرنا إلى الحقائق الدينية، لوجدنا أن صبغتها المقدسة انطبعت على المؤسسات التي تحفظ تراثها وتنقل تعاليمها بشكل أكسبها قوة القانون، فصارت مقدسة، لها ما للكلمة الأصلية من تقديس. وما ثورة البروتستانت على الكاثوليك إبان القرن السادس عشر إلا دليل على نبذها للتقاليد إذ رأى المصلحون، مثل مارتن لوثر، أنها حلت محل العقيدة، وحوّرت معنى الكتاب المقدس أو حجبت عن المؤمنين جوهره.

نفس التقاليد يواجهها المؤرخ في اشتغاله على الشهادات المتصلة بأحداث تاريخية، فلئن جاز أن يقبل بوقوع حدث معين في زمن ما، كما تداولته كتب التاريخ، فكيف السبيل إلى تبين وصوله إليه كما هو على مرّ الأزمنة، ما دامت مهمة المؤرخ، كما بيّن والتر بنيامين، تتعلق بربط الأحداث بعضها ببعض، ومنح المنهزمين حقهم في تأويل ما حدث. لذلك كانت الحقائق النهائية دائما محل شك لدى المؤرخين، ما دفع بكثير منهم إلى إعادة كتابة سير القادة والعظماء، وتقديم قراءة تخالف ما استقر في الأذهان حول حقبة من الحقب، كما بينّا في مقالة هذا الشهر بمجلة “الجديد” عن كذبة دور الأنوار في الثورة الفرنسية.

ولا تشذّ العلوم عن هذا الشكّ، فهي أيضا محلّ بحث ونظر، لأن الأفكار كما يقول باشلار في “تشكل الفكر العلمي” تكتسي بالمراس حقيقة غير مستحقة. فالمكسب العلمي يمكن أن يتحول إلى “عائق أبستيمولوجي” يقف حجر عثرة أمام تطور البحث، لاسيما إذا منعنا أنفسنا من إثارة فرضيات بديلة عن تلك التي نرى أنها فقدت خصوبتها. من ذلك مثلا أن الهندسات اللاإقليدية التي ظهرت في القرن التاسع عشر وجدت صعوبة في تحدّي مُسلّمة إقليدس الخامسة.

أي أن الحقيقة تستدعي إعمال النظر النقدي فيها، دون الوقوع في النسبوية، ولا في شك مطلق ينكر الحقيقة التي يمكن أن يدركها الإنسان من أساسها. شأن ديكارت، الذي أكد، بعد اكتشاف الكوجيتو، أننا لا يمكن أن نشك في كل شيء، لأن الكوجيتو (أنا أفكر، إذن أنا موجود) يعطي أرضية لمشروع البحث عن الحقيقة، فما دام الإنسان يفكر، ويدرك أنه موجود، لا تكون بحوثه الموفَّقة محض أوهام. كذلك كارل بوبر الذي جعل من معيار قابلية التدليس فيصلا لإقامة الحجة على صواب حقيقة علمية. وفي رأيه أن الفرويدية والماركسية لا يمكن أن تكونا علميتين لأنهما لا تلبيان شرط هذا الاختبار.

والخلاصة أنه لا وجود لحقيقة نهائية ثابتة، بل هي نسبية، أو “بصدد التشكل” كما قال الفيلسوف البراغماتي الأميركي وليم جيمس، حتى أن العلماء يضيفون عند ذكرها “في وضع المعرفة حاليا”، غايتهم ليست تثبيتها بل استعمالها في ما يفيد.

يقول جلال الدين الرومي “الحقيقة كانت مرآة بيد الله وقعت وتشظّت، كل فرد أخذ قطعة منها، نظر إليها وخال أنه يملكها كاملة”.

15