الحضور السينمائي لا يكون بالأفلام فقط

أيام وتبدأ الدورة الخامسة والسبعون من مهرجان كان السينمائي الدولي في فرنسا، وهو الحدث الأهم في المشهد السينمائي العالمي. وعبر مسابقاته العديدة ولجانه المختصة تحضر شخصيات سينمائية عربية لها رصيد فني كبير في عالمها؛ ففي ثلاث لجان تحضر أربع قامات سينمائية عربية في لقاء غير مسبوق. وهي تجارب لم يكن حضورها صدفة.
يتحقق الحضور السينمائي في المهرجانات العالمية من خلال الأفلام ومشاركة شخصيات سينمائية لها رصيد مهني فعال سواء في النقد أو الإخراج أو غيرهما من تفاصيل العمل السينمائي في لجان التحكيم. وفي الدورة الخامسة والسبعين من مهرجان كان السينمائي الدولي التي ستنعقد بين السابع عشر والثامن والعشرين من مايو الجاري سيكون للحضور السينمائي العربي دور مميز من خلال المشاركة في لجان تحكيم المهرجان، حيث ستشارك أربع شخصيات سينمائية فاعلة في ثلاث لجان تحكيمية.
في مسابقة الفيلم القصير يحضر المخرج المصري يسري نصرالله رئيسا لها، أما في جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما فسيكون رئيسا لها الناقد المصري أحمد شوقي، وفي مسابقة أسبوع النقاد ستكون المخرجة التونسية كوثر بن هنية في الرئاسة. كما تشارك السينمائية المغربية جيهان بوكرين في عضوية لجنة جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما.
ونعرض في ما يلي تجارب ثلاثة رؤساء عرب للجان تحكيم كان، لم يكن حضورهم محض صدفة وإنما هو وليد تجربة فنية عميقة ساهمت في ترسيخ أسمائهم بوصفهم من أبرز التجارب السينمائية العربية اليوم سواء في ما قدموه من أفلام لاقت نجاحا عالميا أو ما أنجزوه على مستوى التنظيم وغيره.
ويحل المخرج المصري يسري نصرالله رئيسا للجنة تحكيم الأفلام القصيرة في الدورة الـ75 من مهرجان كان السينمائي الدولي وبعضوية كل من منية شكري (ممثلة ومخرجة - كندا) ولورا واندل (مخرجة وكاتبة سيناريو - بلجيكا) وفيليكس مواتي (ممثل ومخرج - فرنسا) وجان كلود راسبيغاس (صحافي وناقد سينمائي - فرنسا).
ويمتلك نصرالله حضورا خاصا في السينما المصرية، وينتمي إلى مجموعة من السينمائيين الذين حققوا مزاجا خاصا فيها. في بداية حياته الفنية توجه إلى دراسة فن السينما لكنه سرعان ما تركها لدراسة العلوم السياسية التي تخرج فيها. إلا أنه لم يترك السينما فعاد لينشط في النقد السينمائي حيث عمل سنوات في صحيفة “السفير” في بيروت. وخلال إقامته في العاصمة اللبنانية شارك في العديد من الأفلام منها ما قدمه مع المخرج السوري عمر أميرلاي في الفيلم الوثائقي الطويل “مصائب قوم” الذي تحدث عن الحرب الأهلية التي عاشها لبنان. ثم عاد إلى مصر ليكون شريكا فنيا للمخرج السينمائي الشهير يوسف شاهين وينجز معه العديد من الأفلام.
رئاسة مصرية
تنتمي سينما يسري نصرالله إلى الشكل الذي يقدم مواضيع إشكالية وتطرح الكثير من الأسئلة التي تهم حياة الناس البسطاء. ففي أول ظهور له قدم فيلم “سرقات صيفية” سنة 1988 وكان موضوعه الصراع الطبقي وما يسببه من مشاكل اجتماعية، مستعرضا ما يمكن أن يكون المجتمع عليه في حال تم تجاوز الحواجز الطبقية بين الناس من خلال علاقة طفلين واحد ينتمي إلى الطبقة الغنية والآخر ابن فلاح فقير. وعرض الفيلم لأول مرة في تظاهرة نصف شهر المخرجين عام 1988 في مهرجان كان السينمائي.
وفي فيلمه الروائي الثاني "ميرسيدس" عام 1993 يتابع نصرالله رحلته في دخول مناطق الحساسيات العرقية والاجتماعية من خلال مسار حياة شاب اسمه نوبي كان نتيجة علاقة والدته مع دبلوماسي أفريقي أحبته ليقدم الفيلم من خلال جدلية علاقة نوبي مع والدته وأخيه الذي لا يعرفه والمرأة التي أحبها عوالم تذهب بالمتلقي نحو حافة الجنون.
في عام 2005 قدم فيلمه الشهير "باب الشمس" المأخوذ عن رواية الأديب اللبناني إلياس خوري التي تحمل نفس الاسم، ويحكي الفيلم عن القضية الفلسطينية بأسلوب مختلف، من خلال حياة زوج فلسطيني يقاتل مع فصائل المقاومة في جنوب لبنان، لكنه يجتاز الحدود متسللا كل حين لزيارة زوجته التي يحبها. الفيلم جوبه بموجة من الرفض في أوساط أوروبية ثقافية ورسمية بضغوط من بعض الجهات في إسرائيل ومنع من العرض في العديد من الصالات في فرنسا حين افتتاحه. وفيلمه الأحدث “الماء والخضرة والوجه الحسن" قدمه عام 2016، وقد قدم فيه تشريحا إنسانيا لواقع اجتماعي تتقاطع فيه مصائر الناس بشكل عبثي.
◙ بفضل مخرجيها تحقق مصر وتونس والمغرب الألق السينمائي في الدورة الخامسة والسبعين من مهرجان كان
وتعتبر جائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين من أقدم وأهم الجوائز التي دأب مهرجان كان السينمائي على تقديمها منذ انطلاقه عام 1946. حيث فاز بها في الدورة الأولى كل من المخرج الأميركي ديفيد لين عن فيلم “لقاء عابر” والمخرج الفرنسي جورج روكييه عن فيلم “فاربيك”. ومنحت لاحقا لعدد من القامات السينمائية العالمية منها ساتيا جيت راي وبيدرو ألمودوفار وجان لوك غودار وأندريه تاركوفسكي وعباس كياروستامي وتيرانيس ماليك وفرانسيس فورد كوبولا وأمير كوستاريكا. والجائزة موجودة في العديد من المهرجانات السينمائية الكبرى في العالم منها مهرجان فيينا وتورينتو وفينيسيا ووارسو وكارلو فيفاري وتسالونيكي ومومباي وعربيا في القاهرة وقرطاج والجونة.
في الدورة الجديدة من المهرجان سيكون الناقد أحمد شوقي من مصر رئيسا للجنة جوائز الاتحاد التي تشكلت بعضوية تسعة أعضاء، حيث ضمت ماريولا ويكتور من بولندا وسيموني سوزانا من إيطاليا وإيمانويل ليفي من أميركا وبيدان ريبيرو من بنغلادش وجيهان بوكرين من المغرب ويوسوفا هاليدو هارونا من النيجر والناقدتين الفرنسيتين ناتالي شيفلييه وماجالي فان ريث.
وهي المرة الأولى التي يكون فيها ناقد مصري أو عربي في رئاسة اللجنة، رغم أنه سبق وأن شارك في أعمال اللجنة نقاد من مصر منهم سمير فريد، الذي تقرر لدى إدارة مهرجان القاهرة السينمائي أن تسمي جائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين باسمه بدءا من الدورة الأربعين التي كانت عام 2018، كما شارك فيها النقاد أمير العمري ويوسف رزق الله وصفاء الليثي وآخرون.
وأحمد شوقي سينمائي مصري درس الصيدلة ثم السينما وقدم عدة أفلام سينمائية في مسيرته الفنية ونشط في مجال النقد السينمائي منذ العام 2009 ليكتب في عدد من المنابر السينمائية المختصة في مصر وخارجها. وأصدر العديد من الكتب منها "داود عبدالسيد، محاورات أحمد شوقي" الصادر عن مهرجان الإسكندرية السينمائي، و"يسري نصرالله، محاورات أحمد شوقي" الصادر عن مهرجان الأقصر السينمائي، و"محظورات على الشاشة التابو في سينما جيل الثمانينات" الصادر ضمن سلسلة آفاق السينما التابعة لهيئة قصور الثقافة في مصر، وغيرها.
أسبوع النقاد
تجربة شوقي تتجاوز الإخراج والكتابة وإقامة ورشات عمل مختصة إلى العمل التنظيمي، وهو ما يمنحه رؤية واسعة تشمل أهم ما وصلت إليه السينما من أعمال متنوعة؛ فقد عمل في العديد من المهرجانات السينمائية مستشارا فنيا وضمن فرق برمجة الأفلام منها مهرجان القاهرة السينمائي الذي شغل فيه منصب المدير الفني وشارك في مهرجان أسوان لأفلام المرأة ومهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة ومهرجان الأقصر ومالمو وطرابلس في لبنان ومومباي في الهند وزيورخ في سويسرا وغيرها.
في مشاركة ثانية لها في لجان تحكيم مهرجان كان السينمائي بعد لجنة الأفلام القصيرة في الدورة السابقة، ستكون المخرجة التونسية كوثر بن هنية في رئاسة لجنة مسابقة أسبوع النقاد في النسخة الـ61 من المسابقة التي تضم أعضاء هم: الممثلة الفرنسية أريان لابيد، والمخرج الأيسلندي بينديكت إرلينجسون، والمصور البلجيكي بينواه ديبي، ومدير مهرجان بوسان الكوري هوه مون يونج.
وكوثر بن هنية مخرجة هامة في المشهد السينمائي العربي، قدمت خلال مسيرتها العديد من الأفلام التي تميزت بطرحها العميق الذي تكتنفه الروح الإنسانية بعذاباتها وأحلامها. في فيلمها الوثائقي "زينب تكره الثلج" تقدم قصة الفتاة التي ترحل عن تونس لتعيش في كندا بسبب زواج والدتها من رجل مهاجر من تونس، لتجد نفسها محاطة بالثلج في كندا. الأمر الذي كانت ترفضه وتصرح بأنها تكره الثلج، في دلالة على رفضها أن تقتلع من بيئتها لتعيش في بيئة مختلفة بسبب مسار حياة أشخاص آخرين. وتحصل الفيلم على الجائزة الذهبية في أيام قرطاج السينمائية.
هذا العام سيكون للحضور السينمائي العربي دور مميز وبارز من خلال المشاركة في لجان تحكيم مهرجان كان العريق
وفي فيلمها المثير "شلاط تونس" تذهب إلى قعر المجتمع، حيث تقدم قصة رجل مهووس يقود دراجة نارية ويقوم باستخدام شفرة يجرح بها أرداف النساء اللاتي يجد أنهن متبرجات ومثيرات في الشوارع. ومن خلال هذا الفيلم شرَحت بن هنية المجتمع التونسي وقدمت مقاربات سياسية واجتماعية وفكرية عن سلوك اجتماعي يرى في نفسه الخصم والحكم ليبرر القيام بما يراه مناسبا، مستثمرا نفاقا اجتماعيا وسلطويا يؤمن له الغطاء المناسب لما يقوم به.
وفي متابعة لطرح قضايا إنسانية عميقة ودالة، تحقق كوثر بن هنية فيلمها الأشهر "الرجل الذي باع ظهره"، الذي يقدم جزءا قاسيا من حياة لاجئ سوري في لبنان يعقد صفقة مع شخص أميركي لكي يتم وشم رسم على ظهره، ثم الرحيل إلى بلجيكا باعتباره لوحة فنية وليس إنسانا.
وقدم الفيلم وجهة نظر قاسية يمتلكها بعض الناس في استباحة أي شيء مقابل تحقيق أفكارهم كما في تحويل جسد إنساني إلى لوحة فنية، وكذلك احتقار واستغلال مظالم الناس لتحقيق نوازع تبدو أنها تحمل قيما فنية إنسانية عليا. وحقق الفيلم حضورا لافتا عربيا وعالميا ففاز بجائزة أحسن فيلم عربي في مهرجان الجونة السينمائي في مصر بدورته الرابعة كما نال جائزة أحسن سيناريو في مهرجان ستوكهولم عام 2020 وتحصل على جائزة أحسن ممثل في مهرجان البندقية سنة 2020 ونال جائزة في مهرجان السينما المتوسطية بمدينة باستيا في فرنسا ورشح لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي في العام الماضي.