الحضارة المنسية

هذه المقالة رمضانية شكلا ومضمونا، فنحن هنا لا نتحدث عن فيلم لأنجلينا جولي حول حضارات قديمة متوارية المعابد وسط الأدغال الكثيفة. حديث اليوم عن الحضارة التي برهن كثيرون بما لا يدع مجالا للشك تفوّقها وريادتها ومع ذلك قبلت أن يسرق منها الآخرون كل تلك الريادة وينسبونها لأنفسهم وهي تبتسم راضية مرضية.
وبينما كان العالم غارقا في الوثنيات والسحر والشعوذة كانت هذه الحضارة المنسية تحقق الإنجازات العلمية في أمور لن تخطر ببالك. خذ مثلا فكرة أول صاروخ وأول دبابة وأول شيفرة سرية، وأول تصميم كامل لمضخة لرفع الماء. وأول خارطة للعالم المعروف، وأول آلة للطيران والكثير الكثير وكله سُرق.
ولكن أكثر تلك الأشياء المسروقة من الحضارة المنسية فداحة ودليلا قائما كل لحظة، هو اكتشاف القارة الأميركية، فكريستوفر كولومبوس كان قد انطلق في رحلته ووصل إلى السواحل الأميركية وجزر الكاريبي في الثاني عشر من أكتوبر عام 1492، وهي السنة التي سقطت فيها غرناطة في الأندلس، لكنه لم يقطع المحيط خلال أيام، بل إن هذا يعني أنه انطلق من مرفأ دلبة أو بالوس، حين كان حكم العرب لا يزال قائما رسميا في الأندلس.
وقد بدأ النشاط البحثي العلمي والملاحي بأمر من الخليفة عبدالرحمن الناصر لدين الله معتمدا على حسداي ابن شفروط الذي قام بجمع أساتذة الملاحة والجغرافيا والفلك في ميناء قرطبة عاصمة الملاحة في العالم، وهذا سيعني الكثير من الكنوز والأراضي المفتوحة للغزو، فجهد رجال الكنيسة لإقناع الملوك والأمراء في قشتالة وأراغون، وزحف الملك فرديناند الثالث نحو المدن الأندلسيَّة البحرية، فاحتلها واستولى على الخرائط والمعدَّات والجداول الملاحيَّة، ونهب السفن الكبيرة وغيَّر أسماءها.
ومن أجمل ما كُتب حول هذا ما عبّر به نيكولا الصايغ بالقول "كان البحر بستان الملاَّحين العرب وملعبهم ومؤنسهم ومدرستهم وملاذهم، وكان مقبرتهم الأبديَّة". أما أحمد بن فضل الله العمري فأشار في كتابه "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" إلى أن هناك أرضا عامرة وديارا مسكونة، تقع خلف بحر الظلمات. وقد عاش ابن فضل الله قبل كولومبوس بمئتي عام.
حتى حين سقطت غرناطة ولم يجد العرب مخرجا سوى الهرب نجاة بأرواحهم، فرّ الملاحون العرب وعبروا المحيط، في هجرة استمرَّت حتى أصدر ملك إسبانيا قرارا يحرّم تلك الهجرة على العرب تحديدا.
وكنت حين نويت كتابة هذه الزاوية الصغيرة للحديث فقط عن سرقة لعبة ترفيهية لا أكثر ذكرها الحسن بن عبدالله بن عمر في كتابه الذي نشر في القرن السابع للهجرة بعنوان "آثار الأول في ترتيب الدول"، وهي كرة القدم الرياضة الأكثر شعبية في العالم حتى عند أهل الحضارة المنسية.