الحسين الخضيري لـ"العرب": الأدب والترجمة يشهدان توسعا رغم تراجع النشر

يملك الشاعر والمترجم المصري الحسين الخضيري تجربة مميزة، صقلت بفعل تأثره ببيئته واطلاعه على الحراك الثقافي العالمي، وكلاسيكيات الأدب والشعر، وهو في هذا الحوار مع "العرب" يطلعنا على مراحل نشأته الفنية وتقييمه لوضع الترجمة والنشر في محافظات الجنوب المصري.
تتميز تجربة الشاعر والمترجم المصري الحسين الخضيري بثراء يتجلى في كون رؤاها وأفكارها تتشكل من جماليات واقع الحياة في جنوب مصر، وتحمل روح الحضارات الفرعونية والقبطية والإسلامية، حيث لم تغادر الجنوب دون أن تفقد التواصل العميق مع تجليات الحداثة الشعرية في بعديها العالمي والعربي، فقد ألقت الترجمة بتأثيراتها وانعكاساتها فأثّرت المخيلة وتشكيلاتها. وفي هذا الحوار مع الخضيري نضيء البدايات ونتعرف على طبيعة التكوين وأثر البيئة في جنوب مصر على مجمل تجربته.
ويقول الخضيري "بدأت رحلتي مع الشعر، مبكرًا، حيث تلقفت أذناي ما كانت تردده أُمي دومًا على مسامعي من الشعر، وتحفظه عن ظهر قلب، من أشعار أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمد الهراوي وأبي نواس وغيرهم من الشعراء، ومعارضاتهم، فحفظت عنها ورحتُ أردده حين أخلو إليّ. وقد توطدت علاقتي بالشعر، فيما بعد طالعت دواوين صلاح عبدالصبور وأمل دنقل، ومحمود درويش وغيرهم من الشعراء الذين أثرَوا وما زالوا يثرون ذائقتنا الشعرية. ولأن المشاق بدأت منذ الصغر، فالشعر رفيق درب ووليد ألم، وواحة بوح، فكان رسولي إلى مَن لا رسول بيني وبينه، فحين يتعذر البوح عليك، تواتيك القصيدة طوقَ نجاةٍ إلى ما تريد".
ويضيف "كانت أُولى قصائدي رسائل حب عجز لساني عن البوح بها، بدأت بالنشر على صفحات مجلة الشاهد التي كانت تصدر من قبرص، ثم تتابعت القصائد واتسعت رقعة البوح، وشَملت مجلات مصرية وعربية أُخرى. على أنّي لم أقنع بمنابر الصحف والمجلات والدوريات الأدبية، ولعشقي للإذاعة المصرية والعربية فقد عرفت قصائدي طريقها إلى إذاعة طنجة المغربية، وإذاعة الشباب والرياضة، وأخيرًا البرنامج العام".
ويضيف لـ"العرب"، "إلى جانب الشعر كتبت القصة القصيرة وراسلت برامج إذاعية عدة، وأُذيعت لي قصة في إذاعة لندن. وفي مرحلة بدايات النضج دلَّني أحد الأصدقاء على نادي الأدب بالأقصر، والذي لم أكُن أدرك وجوده ولا بالدور الكبير الذي كان ومازال يقوم به، فالتحقت بنخبة رائعة من الشعراء والأدباء كانوا جميعًا عونًا مخلصًا في درب الشعر والأدب الذي لا يكف عن مفاجآته أبدًا، مذ عزمتُ على السير فيه. في هذا النادي فوجئت، وفوجئ الأصدقاء معي، بأن لديّ مجموعة كاملة تصلح للنشر، فكانت ديوان ‘أُغنية لغدٍ بعيد’ ونُشرت عام 2009 عن هيئة قصور الثقافة".
ويقول “بدأت مسيرتي الشعرية المتواضعة والمحدودة بالقصيدة العمودية ثم قصيدة التفعيلة ثم قصيدة النثر، والقصيدة العامية أيضًا، بل والأغنية. بعد ديوان ‘أغنية لغدٍ بعيد’ صدر لي ديوان ‘تراتيل المريد’ عام 2006، ثمَّ ‘مدن الغيم’ عام 2009، ثم ديوان ‘ليس في انتظاره أحد’ عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة 2019، ثمّ ديوان ‘رجل وحيد وأشياء حميمة’ عام 2021، ثمَّ ديوان ‘زي الأرملة طالعه الشمس’ عام 2021".
وحول رحلته مع الترجمة، يشير الخضيري إلى أن عشقه للغة الإنجليزية بدأ مبكرًا أيضًا، ويتابع "أًول علاقتي بالترجمة الأدبية كانت مع القصص القصيرة التي كنت أُطالعها على صفحات صحف صن داي والديلي ميرور، ومجلات لايف وومانس ويكلي وغيرها من المجلات الإنجليزية والأميركية، فرحتُ أُترجمها لنفسي ولأصدقائي، ولم يخطر لي ببالٍ قط نشرها، إلى أن راسلت المجلات العربية وبدأت نشر القصص المترجمة، واتجهت إلى الآداب الكلاسيكية العالمية. بالطبع اتسعت مداركي ورؤاي، وزادت حصيلتي اللغوية وذائقتي الشعرية بالتعرف إلى شعراء عالميين وقراءة أعمالهم، وترجمتها إلى العربية، ورحبت مجلة الشعر المصرية التي كانت تصدر عن هيئة الإذاعة والتلفزيون بالملفات التي كنت أُترجمها، وكانت تنشرها على نحوٍ دوري. ومعظم هذه الملفات أضحت كتبًا فيما بعد".
ويلفت الشاعر والمترجم المصري إلى أن قراءاته وتجاربه مع الترجمة لم تتوقف عند الشعر والأدب حيث قال "أُترجم كلَّ ما يروقني كقارئ، مثلا، في التاريخ ترجمت كتاب ‘أيام أورشليم الأخيرة’، وكتاب ‘برابرة ونبلاء’ الذي يُغطي فترة من التاريخ الأوروبي الوسيط والذي يتماس بطبيعة الحال مع فترة هامة من تاريخنا العربي والإسلامي، الفترة التي شهدت الحروب الصليبية، وأيضًا كتاب ‘فتيات صنعن تاريخًا’، وفي الآثار ترجمت كتاب ‘مدن دفينة’ والذي يتحدث عن ثلاث مدن اختفت وتم التنقيب عنها ونُشر في سلسلة كتاب الهلال".
ويتابع "قمت أيضا بترجمة كتاب في علم النفس ألا وهو ‘دافينشي.. دراسة تحليلية لذكريات طفل’ لسيغموند فرويد، وأيضًا كتبا في الفن مثل ‘مريم العذراء في الفن’، وكتاب في فلسفة الفن بعنوان ‘بين الفن والطبيعة’، وكتاب في الميثولوجيا ‘الزعيم الذي أحب الأحاجي’، وكتاب ‘أساطير إيطالية’، وفي أدب الرسائل كتاب ‘داوم على المراسلة في زمن الحرب’، وكتاب للأطفال هو ‘أطفال الغابة’، وغيرها من الكتب، لكن هذا التنوع لم يأت عن قصد؛ فما يروقني كقارئ فحسب أقوم بترجمته، إضافة إلى ما يمتعني ويفيدني وأشعر أنه سيمتع القارئ وسيستفيد منه".
◙ اللحظة الراهنة تتطلب من الجميع تكاتف كتّاب وناشرين، بل ومؤسسات تكريس العملية الثقافية لخدمة قضايانا العربية
ويؤكد الخضيري "أفاد الشاعر فيَّ المترجم، وأفدتُ كشاعرٍ من المترجم، لأنك حين تقرأ شاعرًا وتترجم له، تضفي عليك من شاعريته ويضفي عليك من أساليبه ومفرداته وصوره التي تفيد منها، وبالطبع أُصوغ ذلك كله بذائقتي الخاصة المتواضعة. كما أنني اطلعت على الشعر العالمي وترجمت لشعراء عالميين وكذلك شعراء نوبل ولي كتاب تحت الطبع بعنوان 'على مَهَلٍ عند نافذتي يمر' وهو عن شعراء نوبل، وللشعر الأفريقي نصيب كبير لديّ ولي كتاب تحت الطبع بعنوان 'كمجنونٍ يُطارد لا شيء’ وهو مختارات من الشعر الأفريقي المعاصر. كل ذلك يجعل آفاق الكتابة تتسع والرؤية تختلف وتتطور".
أما عن تأثير البيئة في جنوب الصعيد على تجربته الشعر، خاصة ما تحمله تلك البيئة من مجمل الحضارات المصرية القديمة، فيقول "الإنسان ابن بيئته، ابن الصحراء يبدو أثر بيئته عليه وكذلك الذي ينشأ في بيئةٍ بحرية، تطالعك رائحة البحر، حين تقرأ له. والنشأة في الجنوب الزاخر بكل تفاصيله ومعايشته لمخزون حضاري يمتد إلى الآلاف من السنين، بالتأكيد له أثر بالغ على تجربتي. أذكر أنني لمّا لم ألتحق بقسم اللغة الإنجليزية، في كلية الآداب فرع سوهاج جامعة أسيوط، وذلك لأن الأمر يتطلب حضورًا لم يُتح لي، فحين خُيرتُ بين الأقسام اخترت قسم التاريخ والدراسات الأفريقية، لعله الانتماء لبقعة حضارية وذائقة نشأت بين ضلوع التاريخ".
ويؤكد أن “الصعيد بوتقة مصر التي تنصهر فيه تقاليدها وعاداتها العريقة، فالانتماء لبقعة ثرية وثرَّة من بقاع التاريخ يُشعرك دوما بالأصالة، وبأن ثمة جذورا لك ويُلقي ذلك كله على وعيك الخاص مسؤولية عليك أن تعيها، مما يمنحك القدرة على مزج كل هذا بطموحك والرغبة في تحقيق ذاتك. هنالك أيضًا ملمح آخر يصعب عليَّ ألا أذكره، فقد كان بيت جدي ملاصقا لمعبد الأقصر بحكم انتمائي للعائلة الحجاجية التي ينتهي نسبُها إلى قطب زمانه العارف بالله سيدي أبي الحجاج الأقصري، وذلك قبل نقل بيوت العائلة من مئة عام تقريبًا – حيث كانت تُسمّى بالأقصر القديمة – من حرم الجامع إلى مناطق أبعد، والصبغة الصوفية التي اصطبغت بها العائلة بحكم هذا الانتماء الشريف، والعادات والشعائر التي تأصلت في أبناء العائلة، تركت بصماتها على ثقافتي الخاصة المتواضعة".
ويشرح أن "هذا الإرث من شعائر وممارسات دينية وصوفية، كالمجلس الحجاجي والصلوات ومقارئ القرآن التي تُقام في بيوت العائلة، منها ما هو دائم، ومنها ما يُقام في شهر رمضان خاصة، فقد كان بيت جدي حسن يشهد مقرأة دائمة لم تتوقف سوى في السنوات الأخيرة، وما زالت ببيت جدي تقام سنويًا ويرتادها الصبية والشباب والشيوخ، يتلون القرآن ويتدبرونه، والإنشاد الديني الصوفي مثل قصائد ابن الفارض وغيره من الشعراء الصوفيين لا شك ترك كبير الأثر في نظرتي إلى الشعر وفي تكويني الوجداني. فلي أن أزعم أن ذلك قوَّمَ اللغة العربية – إلى حدٍ مُرضٍ – لديّ في سن مبكرة، وأطلعني على قصائد ومدائح نبوية أثرت ذائقتي وحملت إليَّ مخزونًا لم يتوافر لغيري".
ويضيف "كما أنني لا أكتمك سرًّا أضفت إلى هذه المؤثرات، ما هو من اجتراحاتي، فقد اعتدتُ، وأزعم أنني إلى الآن أفعلها – قدر الإمكان – أستقل مقعدي المتحرك وأنطلق إلى الحقول البعيدة والوحيدة أنشد العزلة فيها فجرًا أو بعد منتصف الليل، ولست أُذيع سرَّا بأنني لا أكتب إلا في هذه الأجواء، فأنا لا أجيد الكتابة بين الجدران".
وحول المشهد الثقافي في مصر وفي الجنوب، يقول الخضيري “المشهد الثقافي الحالي يشهد زخمًا وتنوعًا في مصر، خاصةً في الجنوب، ففي الأقصر باقة رائعة من كتَّاب الرواية والقصة والمسرح ولم تعد الأقصر تقدم زخمًا شعريًا فحسب، فكتابة السرد شهدت طفرةً كبيرة وسَمَت أسماء عدة تكتب الرواية والقصة والمسرح، ولم تعد الأقصر تعتمد على أسماء رواد فن السرد الكبار، بل امتدت السلسلة. أمّا الترجمة فعلى المستوى العام، اتسعت رقعتها لتشمل لغاتٍ أُخرى تتم الترجمة عنها بعد أن كانت تقتصر على اللغتين الفرنسية والإنجليزية إلا في ما ندر، بيد أن المشهد زاخر أيضًا بالصعوبات والعراقيل، ناهيك عن مشاكل النشر، النوعية منها والمتعلقة بالعلاقة بين الناشر والكاتب، فالناشر – وهو مُحق في ذلك – يهمه أيضًا المبيعات، يُحجم عن طباعة الكتب الفنية التي باتت تتكلف الكثير والكثير، أمّا كتب الشعر، وعلى الأخص الشعر المترجم، فلا تلقى الترحاب من دور النشر لأسباب عدة، لعل أهمها ارتفاع تكاليف الطباعة وانصراف القراء إلى الميديا".
ويستدرك "أمّا ما يتعلق بالترجمة في الأقصر، فمثلا كمترجم في أقاصي الصعيد، يصعب عليك العثور على كتب وإصدارات جديدة للترجمة، فلا معارض للكتب تُقام هنا، ولا يتوافر لك الاحتكاك بزملائك من المترجمين ومن يشاطرونك هذا الهم الثقافي، وليس من فرع لهيئة الكتاب، فمعظم إصدارات الهيئة العامة للكتاب لا تصلنا، على الرغم من مناداتنا منذ عقود بإقامة فرع لمكتبات الهيئة، ولعلها فرصة لتجديد الدعوة لإقامة فرع في منطقة هامة من صعيد مصر تزخر بالمبدعين، فالجنوب زاخر بالشعراء الذين يبدعون بالفصحى والعامية وكتّاب الرواية والقصة والمسرح، والذين حصدوا جوائز أدبية مرموقة. على أن اللحظة الراهنة تتطلب من الجميع تكاتفًا كتَّابا وناشرين، وبل ومؤسسات تكريس العملية الثقافية لخدمة قضايانا العربية والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، ونشر الوعي بها وبمقتضياتها بين الأجيال الجديدة".