الحرية الفردية في المجتمعات العربية تتحول إلى حلم

وضع الحريات الفردية في المجتمعات العربية وضع متذبذب، إذ تكاد تغيب مكانة الفرد أمام سطوة مفاهيم مثل الأمة أو القبيلة أو الجماعة، فلا يحظى الأفراد في هذه المجتمعات بحرية الاختيار والميولات والأفكار وحتى الأذواق، إذ كل من يتجرأ على الحواجز والضوابط التي توضع أمام الفرد ليلتزم بأن يكون نسخة من غيره، يجابه بهجومات شرسة من تنكيل يصل أحيانا إلى حد القتل والإيذاء، وإذا كان الفرد امرأة يتضاعف حجم الإلزام والتقييد، ويصبح الوضع أكثر تعقيدا، في مجتمعات تتحكم في شكل حواجب المرأة ولباسها ونظرتها ومشيتها فما بالك بأفكارها. فيما يلي استطلاع لآراء بعض الكاتبات والباحثات العربيات حول واقع الحرية الفردية في المجتمعات العربية.
ما تزال الحريات في مجتمعاتنا العربية رهينة دساتير وقوانين قديمة وحبيسة قلوبنا الحالمة بتحققها متوقفة حد الموت عند من وضعوها في حقبة تاريخية أكل عليها الدهر وشرب، ولم تتم إعادة النظر فيها وتطويرها لتتماشى مع حياتنا التي تتقدم بنا عبر الزمن ولا نتقدم معها، بل نظل في حالة جمود وتراجع فيما تبقى الحرية حلما حيا يتجدد مع إشراقة شمس كل يوم جديد.
وتبقى الحرية الفردية حبر الكتّاب الأول والمصعد الوحيد لخلق إنسان متوازن ومنسجم مع روح العصر وبالتالي خلق مجتمعات لها مكانتها، مجتمعات تؤمن بالأفراد وحقوقهم وحرياتهم، وتحقق بذلك التعايش واللحمة الاجتماعية المطلوبة.
مجتمع الروبوت
ناتالي الخوري: الحرية الفردية تجعل الأدب يتطور بالفوضى الخلاقة
تقول الروائية والأكاديمية اللبنانية ناتالي الخوري “الحرية الفردية عند الإنسان هي ضرورة حتمية ليتمكن من تطوير نفسه وحياته، كالماء والهواء، والتعبير عن آرائه وأفكاره وتطلعاته، وهو حق من حقوقه الأساسية. أما بالنسبة إلى الكاتب، فهي أداته الأولى للكتابة، إذ أن حرية التعبير غير المشروطة هي النص والحبر والأفق، أكان مقالا في السياسة أو الفكر والاجتماع، أو شعرا ورواية ومسرحية وغيرها من الفنون الأدبية”.
وتضيف “على الصعيد الأدبي، لطالما تغنينا في لبنان بمساحة الحرية التي يتمتع بها أدبنا ومسرحنا وكتابنا، من دون حدود، في كل المراحل. وهنا يمكن أن ننظر إلى التعددية في لبنان على أنها مصدر من مصادر حريتنا الفردية التي ما زلنا نتغنى بها، فتعدد الخطاب السياسي والطائفي جعل للحرية الفردية مساحة واسعة، أو ربما هذا الانقسام الحاد في لبنان، على مستوى المنظومة الحاكمة، انعكس إيجابا على الحريات، على المستوى الشعبي”.
وتتابع الخوري “يكفي أن نمر سريعا على وسائل التواصل والتغريدات المتنوعة، كذلك كتاب الآراء والمقالات الساسية. فالجميع يعبر عن آرائه السياسية والفكرية والدينية والفنية طبعا. المسرح اللبناني مثلا، ينتقد الجميع من دون استثناء، والرواية في لبنان، وخاصة تلك التي تتناول الحروب، لا تعفي أحدا، بغض النظر عن توجه مؤلفها وانحيازه إلى فريق معين، فلا تمنع رواية تقف مع فريق ضد آخر. كذلك في الشعر والفنون الأدبية الأخرى. الحرية الفردية تجعل الأدب يتطور بالفوضى الخلاقة، بالتجدد الذي يفرح بالتجريب ويشكل فضاءات جديدة”.
أما الروائية المصرية سهير المصادفة فتؤكد على أن الحرية الفردية تعاني في مجتمعاتنا. ولكن فيما يعنيها ككاتبة أن حدود حرية التعبير تكاد تكون مغلقة؛ تقول “مثلا لدينا في العالم العربي التابوهات الثلاثة الشهيرة: الدين والسياسة والجنس، حاضرة بقوة ومراقبة؛ من خلال السلطة أو المجتمع نفسه، ولكن ما يسمى بالتابوهات الثلاثة هو محور الوجود وهو سؤال الكون الأكبر، أو ببساطة هو الكتابة وليست الحرية الفردية فحسب أو التمرد في الكتابة”.
سهير المصادفة: التابوهات الثلاثة محور الوجود وسؤال الكون الأكبر
وتتابع الروائية “إذا ما اخترنا أبسط حكايات البشرية، شريطة أن تتوافر فيها مقومات الحكاية فسنجدها لا تخلو من الدين أو السياسة أو الجنس، لكونها مثلث الوجود – فلسفيا – ولا يمكن تجاوز التعبير عنها. الحرية الفردية كانت دائما هي القاطرة التي تقل المجتمعات إلى آفاق أرحب، وإلى درجة أعلى من التطور، ومن دون الحرية الفردية سنجد المجتمع راكدا وآليا أيضا، فماذا لو أنه في بقعة ما من العالم كان الناس جميعا يؤمنون بما يؤمن به الآخر ويحبون ما يحبه ويستبعدون ما يستبعده ويفكرون مثلما يفكر، ولا يوجد صوت واحد معارض أو مختلف، أظن أن هذا المجتمع سيصير كل أعضائه من الروبوت بامتياز، ولن يتطور أبدا، وسيظل يعيش متجمدا في لحظته الزمنية هذه إلى الأبد”.
لا مكان للفرد
تقول الكاتبة والناقدة التونسية ابتسام القشوري “لا شك في أن الحرية من أهم القيم التي ناضل الإنسان وما زال يناضل من أجلها منذ وجوده على وجه الأرض، ورغم تعدد تعريفات الحرية والتي تنص في معظمها على تحرر الإنسان من الضغوطات التي تكبل طاقته وقدراته وعدم إجباره على فعل معين، لكن حسب رأيي فإن الحرية بعيدا عن التنظيرات لا بد أن تعاش أي يشعر بها الإنسان بالممارسة العملية في الحياة”.
وتتابع “إذا كانت الحرية إحدى مقومات الشعوب المتقدمة ، فإن شعوب المنطقة العربية الإسلامية تعاني من تضييق الحريات بنسب متفاوتة من بلد الى آخر ويرجع ذلك في رأيي إلى أنها مجتمعات قبلية ما زالت تعيش بقيم المجموعة فلا وجود للفرد فيها، وهذا ما ذهب إليه أيضا أدونيس مثلا في إطار حديثه عن الديمقراطية بعد الثورات العربية، إذ أكد أن الفرد العربي المسلم لم يولد بعد؟ فليس هناك فرد عربي هو سيد نفسه ومصيره وإرادته بل هناك أمة وجماعة، وربط أدونيس عدم وجود فرد عربي باستحالة وجود ديمقراطية وحقوق الإنسان التي تعتمد أساسا على الفردانية”.
وتضيف “من هنا نخلص إلى أن الحرية الفردية منعدمة في مجتمعاتنا العربية. وإن كسبت بعض البلدان بعد الثورات العربية بعض الحريات مثل حرية التعبير مثلما حصل في تونس، إلا أن الحريات الفردية ما زالت مرفوضة إذ أن المجتمع التونسي ليس جاهزا بعد لقبول مثل هذه الحريات”. وهذا ما عبرت عنه المحامية والناشطة الحقوقية بشرى بالحاج حميدة حيث تقول “رغم أن الحريات والحقوق الفردية لا تمس بحقوق الغير إلا أنها تلقى مقاومة وصدا ويقع انتهاكها من طرف الدولة والمجموعات والأفراد”، وترى أن “التغيير في العمق لن يحصل بعصا سحرية بل يستوجب عملا مضنيا وطويل المدى لما تغلغلت داخل المجتمع والدولة ثقافة نكران الفرد واستقلاليته الذاتية واعتباره ملك المجموعة وخاضعا لإرادتها في أدنى حرياته الفردية وحياته الخاصة. ولذلك وقع رفض ما جاءت به لجنة الحقوق والحريات الفردية من طرف مجلس النواب التونسي في وقت سابق ولم يقع النظر فيه بجدية”.
ابتسام القشوري: مجتمعاتنا تعيش بقيم المجموعة ولا وجود للفرد فيها
وتابعت “ولهذا أعتبر كتونسية أن النضال مستمر إذ للوصول إلى هذا الهدف لا بد أن نصل إلى تغييرات في البنية الفكرية للسلطات الدينية والاجتماعية وتغير خاصة العقليات التي ترى في الحرية الفردية خطرا على قيمها، ولا بد أن نصل إلى إقناع الناس والساسة بأنه لا وجود لحرية جزئية فإما أن نكون أحرارا أو لا نكون”.
حلم مبتور
تقول المختصة في علم الاجتماع الأكاديمية اللبنانية مي سليم مسعود “قد يبدو معقدا بعض الشيء الحديث عن الحرية الفردية والتي هي مبدأ أساسي في تطور المجتمع وحق من حقوق الإنسان بما يتضمنه هذا المفهوم من حرية الفكر والتعبير والتوجه والانتماء. إن الحرية الفردية ليست مفهوما مطلقا بل هي مفهوم نسبي تتفاوت درجاته بين فرد وآخر ومجتمع وآخر ومعتقد وآخر، لذلك قد تنقسم الآراء بين مؤيد ومعارض”.
وتتابع “في ظل اجتياح الرأسمالية المعولمة للإنسانية جمعاء وسيطرة وسائل الميديا بشتى أنواعها وألوانها على مختلف مستويات حياتنا حولت العالم إلى ‘قرية كونية صغيرة‘ يطل كل منا من شرفته على شرفة الآخر حتى ولو كان هذا الآخر في أبعد أقاصي الأرض مما جعل حريتنا الفردية في تقلص وتمدد وفي صراع ذاتي قد يرى البعض أنه يتمتع بحريته الفردية بغض النظر عن رأي المجتمع فيه انطلاقا من أنه شأن خاص بين الفرد وذاته”.
وتضيف “قد يجد البعض الآخر أن الإنسان ابن بيئته، وأنه مقيد بتقاليد وأعراف وضوابط ومعتقدات لا يستطيع تجاوزها خشية تعرضه، لعقوبات، تفرضها الأسرة أو العشيرة أو الحزب أو المجتمع. للأسف في مجتمعاتنا العربية لا تزال الحرية الفردية حلما مبتور الساقين نحلم به ولا نناله باختيارنا ومهما تعددت تسميات هذه الحرية إلا أنها تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين”.
عجز عن الحرية
مي سليم مسعود: في مجتمعاتنا العربية الحرية الفردية حلم مبتور
تقول الروائية الجزائرية سامية بن دريس “قبل الحديث عن الحرية الفردية، دعنا نتساءل عن وجود الحرية بمفاهيمها الأخرى، أعني الحرية السياسية والاجتماعية، هل هناك حرية سياسية واجتماعية في الجزائر؟ هل يمكن للمواطن أو الكاتب أن ينتقد السلطة السياسية؟ هل يمكن له أن يعبر عما يريد وما يراه جديرا بالكتابة دون أن يخشى شعور الرقيبين السياسي والاجتماعي، (مع العلم أن درجة التواطؤ بينهما عالية) لا أعتقد أن ذلك
ممكن”.
وتضيف “حدثت اعتقالات أثناء الحراك وتعرض بعض الأشخاص للاعتقال والمحاكمة بسبب منشورات فايسبوكية. وقادت عصابات البلاد نحو الإفلاس لكنها تسرح وتمرح متحدية الجميع دون أن تمس شعرة منها. وبناء على ما ذكر فالحديث عن الحرية الفردية غير متاح إلا في إطار الهامش الذي تتيحه السلطتان السياسية والاجتماعية”.
وتتابع “في الجزائر هناك مثل شعبي يقول ‘دير كيما جارك وإلاّ بدل باب دارك‘ (افعل مثل جارك أو غيّر باب دارك) وغيرها من الأنماط الثانوية داخل المنظومة الثقافية، يعجز الكاتب كما المواطن عن الإقدام على بعض الممارسات التي هي من صميم الحرية الفردية، بفعل الحرب الشعواء التي تمارسها السلطة الاجتماعية بتواطؤ مع السلطة السياسية والدينية والإعلام المأجور”.
وتواصل قولها “أما إذا تحدثنا عن الحرية الفردية بالنسبة إلى المرأة الكاتبة، فالحديث يطول، إذ أول ما يصادر حريتها مؤسسة الزواج يكفي التلويح ببعض العبارات ذات العلاقة بالشرف والسمعة لتحطيم حياتها الهشة، داخل مجتمع تحكمه تقاليد بالية. ولا ننسى دور الجوانب الاقتصادية، التي لها اليد الطولى في رهن الحرية الفردية والخلاصة أن الحرية الفردية عندنا (الجزائر) ما زالت تحتاج إلى مسيرة طويلة من الكفاح”.