آمال قرامي لـ"العرب": كلما تعقدت الأوضاع وتأزمت صارت الحاجة إلى المثقفين أكبر

علينا الانتباه.. أنماط تفكير مغايرة لدى الجيل الجديد الذي ولد زمن الثورات.
الأحد 2024/08/25
النسويات مطالبات بالمقاومة

تشهد المجتمعات العربية مؤخرا حالات من الارتداد عن المكاسب التي حققتها النساء بعد عقود طويلة من النضال، وإن لم تظهر هذه الحالات في القرارات الحكومية بشكل جلي، فهي ظاهرة في الخطابات التي بدأت تروّج وتجد لها صدى خاصة مع انتشار الشعبوية. وهنا بات مطالبا من الباحثات والناشطات النسويات العمل أكثر على ترسيخ مكاسبهن، وهذا ما تؤمن به الباحثة والأكاديمية التونسية آمال قرامي، التي كان لـ”العرب” معها هذا الحوار.

تعتبر الأكاديمية التونسية آمال قرامي من أبرز الأسماء النقدية التونسية والعربية، وهي تشغل منصب أستاذة تعليم عال بقسم العربية في كلية الآداب والفنون والإنسانيات جامعة منوبة بتونس، وقد تحصلت على عدد من شهائد الدكتوراه في الحلقة الثالثة، بأطروحة حول الدراسات الإسلامية تحت عنوان “قضية الردة في الفكر الإسلامي: قديما وحديثا” سنة 1993.

كما نالت قرامي شهادة دكتورا الدولة، بأطروحة عنوانها “ظاهرة الاختلاف في الحضارة العربية الإسلامية: الأسباب والدلالات” منوبة 2004، وتشتغل في أعمالها في مجالات بحثية صعبة مثل قضايا الفكر الإسلامي قديما وحديثا، الأديان المقارنة، الدراسات النسائية، دراسات النوع الاجتماعي الجندر، دراسات الإعلام، دراسات العنف والتطرف، الإرهاب والجندر.

ردة في وضع المرأة

العرب: المظاهر الدالة على ارتداد المجتمعات الإسلامية المعاصرة كثيرة ولكن تختلف رؤى الأشخاص لها باختلاف أفكارهم وتربيتهم من هنا ألا يتشابك الانتقاد فيها ولها؟

آمال قرامي: يختلف تقييم الناس لما يعيشونه أو يختبرونه أو يتفاعلون معه وفق مستوى التعليم والثقافة والإدراك والوعي والتنشئة التي تلقوها والتفاعل الاجتماعي اليومي والمرجعيات المتعددة، فضلا عن تقاطعات السن والجندر والطبقة والدين والفقر/الغنى والسلامة/الإعاقة، وغيرها من العناصر المؤثرة في عمليات التمثل والفهم وإصدار الأحكام بشأن بعض الظواهر.

ولكن عندما يتعلق الأمر بمكانة النساء وحقوقهن فإن التراجع يصبح ذا دلالة بالغة الأهمية ولا بد أن يثير المخاوف والغضب ويحفز على المقاومة: مقاومة كل المحاولات التي تهدف إلى نسف مسارات التحرر وبناء المواطنة والتنكر لتاريخ من النضال وفرض سياسات النسيان.

الاحتماء بالماضي والحرص على إحياء أنماط ذكورية “تقليدية” دليل على عجز أغلب الرجال عن التكيف مع التحولات
الاحتماء بالماضي والحرص على إحياء أنماط ذكورية “تقليدية” دليل على عجز أغلب الرجال عن التكيف مع التحولات

ليس من قبيل الصدفة أن نرى تحركات في مختلف بلدان العالم تتآزر من أجل العبث بكل المكتسبات وتزييف الوعي. فإذا أخذنا مثلا قضية منع الإجهاض، فإن القوى اليمينية والدينية والسياسية والذكورية التي تعاضدت من أجل انتزاع حق النساء في الإجهاض تبرّر الأمر بأنه رجوع إلى الأصل والطبيعة: أي تحمل النساء وظيفة الإنجاب، إذ أنه لا يمكنهن التصرف في أجسادهن وأحشائهن ما دمن في خدمة الإرادة الإلهية والأنظمة الأسرية والاجتماعية.

 ويضاف إلى هذا الخطاب الديني/الاجتماعي/القومي خطاب آخر يدافع عن حق الرجل في استعادة مكانته وامتيازاته التي حطمتها الحركات النسائية التحررية والحركات النسوية، وهذه القوى إذ تتكتل من أجل الحد من حقوق النساء إنما تعبر عن رغبتها في فرض نمط من الرجولة الموسوم بـ”الذكورة المهيمنة”. وانطلاقا من هذا المثال فنحن إزاء عود إلى الوراء ينظر إليه على أنه “محمود” إذ أنه السبيل إلى استعادة أنموذج نتمثله ونراه الحل الأحسن للقضاء على الصراعات الداخلية التي يعيشها الرجل، بعد التحولات الاجتماعية في بنية الوعي وفي بناء العلاقات وفي التصورات، والإرباك الحاصل في النظام التراتبي وعلاقات السلطة وغيرها من المسائل.

وليس الاحتماء بالماضي والحرص على إحياء أنماط ذكورية “محافظة” أو “تقليدية” في نظر الدارسات والناشطات والمُمارسات على أرض الواقع إلا حجة على عدم قدرة أغلب الرجال على التكيف مع التحولات التي طرأت على المنازل، إن كان على مستوى وعي فئات من النساء بذواتهن وحقوقهن ورغباتهن، وتصالحهن مع أجسادهن، وتمكنهن من معرفة تسمح لهن بتطوير أدائهن وبناء علاقات منسجمة مع قيمهن ورؤيتهن للحياة والكون. فأن تمنع النساء من حق تحديد الإنجاب من عدمه أو حق اختيار زمن الإنجاب معناه السطو على حقوق اكتسبت بعد نضال طويل ووجع ومعاناة وتضحيات، وهو علامة على فرض علاقات الهيمنة والتسلط وما ينجم عنها من ممارسات رقابية وتأديبية وغيرها، ولذا تفضح الناشطات هذا التراجع المشين (Backlash) في مجال حقوق الإنسان للنساء الذي يعد وصمة عار على جبين المجتمعات التي اتخذت هذا القرار.

وتدرك النسويات ما سيترتب عن انتزاع الحق في الإجهاض من نتائج على مستوى الوعي والإدراك وتنظيم العلاقة بالجسد، وبالأبناء غير المرغوب فيهم، وتدخل مختلف السلط في تشكيل أجساد النساء والتصرف في حيواتهن وقراراتهن. ولأن الناشطات والأكاديميات ناضلن من أجل فضح جرائم ارتكبتها الدول في حق النساء في مراحل تاريخية مختلفة، كإجبارية تعقيم فئة من السوداوات في الولايات المتحدة أو تحكم الأنظمة الشيوعية في عدد الأطفال، فقد اعتبرن شرعنة التصرف في أجساد النساء وحيواتهن تراجعا خطيرا عن منظومة حقوق الإنسان.

الدارسات تعمقت في فضح التضامن الذكوري لتعزيز مكانة الرجل على حساب المرأة والتغاضي عن القمع والعنف

العرب: “ترى قرامي أن ثمة عدة أسباب وراء تجنيد النساء؛ إذ أن تشديد الرقابة على الرجال، بعد صدور الخطة العالمية لمكافحة الإرهاب، فرضَ على الجيل الثاني من المنتمين إلى القاعدة وغيرها من الجماعات الإرهابية، توظيف النساء للقيام بعدة مهام كانت حكراً على الرجال. والظاهر، حسب بعض الدراسات، أن الجماعات المتطرفة تختار من هُم/‏‏هُن شديدي الانفعال والتأثر، ولهم صعوبة في بناء علاقة مع الآخرين، ومن هُم في قطيعةٍ مع مجتمعاتهم، لتُنمّي فيهم كُرْهَ الآخر والرغبة في الانتقام منه. فإذا كانت الفتيات يعانين من الهشاشة والنبذ الاجتماعي كن خير من يؤدي مهمة التفجير”. إن الواقع الاجتماعي والاقتصادي الصعب في مجتمعاتنا العربية يدفع إلى المزيد من الاختناقات ويولد المزيد من النتائج الكارثية”، فما هي المخاطر والتهديدات الجديدة؟

آمال قرامي: يذهب في ذهن البعض أن الأوضاع قد استقرت وأن صفحة “داعش” قد طويت، ولكن المطّلع على التحركات الأخيرة للجماعات المتشددة في إندونيسيا أو ماليزيا وغيرها من البلدان يدرك أن المخاطر حقيقية، يكفي أن نتأمل في مختلف الأنشطة هنا وهناك حتى نتبين مدى حرص الجماعات المتطرفة العنيفة على فرض المشروع الأيديولوجي – السياسي بالقوة.

ونظرا إلى أن أغلب الدول أساءت إدارة ملف العائدين/ات معتبرة أنه لا مجال لهدر الأموال في عمليات إعادة تأهيل العائدين/ات وإدماجهم في المجتمع، فإن استئناف عدد هام من الأمهات لمهامهن التربوية وحرصهن على تنشئة أبنائهن على كره الآخر والانتقام منه لأنه أسقط “دولة الخلافة” ستكون له عواقب خطيرة على الأمن الاجتماعي والقومي.

فضح التضامن الذكوري

g

العرب: حول مفهوم الجندر يقول خالد سليمان في مقالة له “المشكلة تبرز عندما شطح خيال بعض دعاة المساواة الجندرية وباتوا يطالبون بإلغاء أو تهميش الفروق بين الذكور والإناث دون مراعاة لكثير من الاعتبارات الدينية والأخلاقية والمنطقية والواقعية”، أترك لك التعليق؟

آمال قرامي: المشكلة في نظري، هي أن يتكلم المرء في مسائل لا يعرفها، ولم يدرس النظريات والمقاربات الخاصة بها، ولم يتعمق في مسار إنتاج المعرفة وتطوره ولا في الجدل الذي طرح. إن هذا الرجل يقارب المفهوم من موقع يجمع بين الادعاء المعرفي و”الميزوجينية”، أي كره النساء، ويفضح في الوقت ذاته، مدى تحيزه لمصالح الرجال وامتيازاتهم.

 وهو إذ يتحمس وينفعل ويعبر عن مقته لـ”دعاة المساواة الجندرية” لا يختلف عن بعض الأئمة الذين خصصوا خطب الجمعة للحديث في الجندر أو عدد من أساتذة الشريعة الذين اتهموا الدارسات بأبشع التهم و”اجتهدوا” في سبيل تزييف وعي الجماهير، وإيهامهم بأن الخطر قادم لا محالة على أيدي النساء، وهم إذ يستمرون في نشر هذه المغالطات يخبرون عن التمثلات الراسخة في مخيالهم، والتي تصل النساء بالكيد والفتنة ونقصان العقل والفوضى وتنفي عنهن القدرة على إنتاج معرفة، وباتت اليوم ترتحل من ثقافة إلى أخرى وتعتمد في سياسات الدول وغيرها.

إذا كانت المقاربات الجندرية “هدامة” للأسر مؤدية إلى الانحراف فلم تلتزم الدول في أغلب البلدان العربية والإسلامية بتطبيقها في الخطط الوطنية: في التعليم وفي مكافحة الإرهاب، وفي الحد من التغيير المناخي وفي وزارة الداخلية ووزارة الشؤون الاجتماعية وغيرها؟

في الواقع لا يستغرب هذا التحامل على “دعاة” المساواة والعدالة الجندرية فكلما تعمقت الدارسات في فضح التضامن الذكوري المؤدي إلى تعزيز مكانة الرجل على حساب المرأة والتغاضي عن القمع والعنف المسلط على الشابات والنساء وكان الرد شن الحملات التي تهدف إلى انتزاع شرعية النشاطية النسائية وعدم الاعتراف بخطابات حللت الواقع ورامت التغيير الفعلي.

 ثم إن موقف الدعاة وأساتذة الشريعة من النسويات والناشطات الحقوقيات والناشطات السياسيات وغيرهن يتماهى مع موقف رجال الدين في المسيحية أو اليهودية الذين يتضامنون من أجل الحد من حقوق النساء والتصدي للعدالة والمساواة والتحرر، مع أن التشبه “بغير المسلم”، في عرف العلماء، منبوذ بل مدان.

فشل الثورات ومسارات التحول أو الانتقال الديمقراطي يعود إلى هيمنة أنماط من التفكير والسلوك والتصورات والعلاقات

 إن تناول الجندر باعتباره أداة تحليل للواقع التمييزي الذي يهضم حقوق النساء يقتضي الاعتراف بالنتائج التي توصلت إليها الباحثات ومن أهمها التقاطع بين الأنظمة القمعية: النظام السياسي والنظام الأبوي والنظام الديني والنظام الرأسمالي والنظام الامبريالي والنظام الاستعماري.

العرب: هل يمكن أن توضحي أكثر؟

آمال قرامي: من هنا كان التحليل الموظف للمقاربات النسوية والجندرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ضرورة ملحة وآلية تسمح بالتفكيك والفهم وليس “شطحة”، مع أن الشطح في اللغة هو الاسترسال في الكلام والناشطات مستمرات في النضال معبرات عن قدرتهن على امتلاك الصوت والقدرة على التعبير والتحليل والفضح. أما الشطح الصوفي فهو ليس هذيانا إنه خطاب ملغز لا يفهمه إلا ذوو الألباب. وخطابات النسويات والناشطات الجمعاويات لا يفقهها إلا من عاش مسار التحرر.

أدوار المثقفين

g

العرب: في ظل هذه الأوضاع الصعبة التي يعيشها المثقف العربي وهو ذاته (المواطن بكافة تخصصاته، أستاذ جامعي، كاتب، دكتور… إلخ) كيف يتيسر لنا التفكير أو إعمال العقل وهو تحت ضغط التفكير في العيش الآني وكيف يكون حال الفكر العربي؟

آمال قرامي: لقد تناول عدد من المفكرين كصادق جلال العظم وإدوار سعيد وحميد الدباشي وغيرهم هذه المسألة المعبرة عن واقع مأزوم لا يتيح للمثقف أن يحقق استقلاليته، وأن يتحرر من إكراهات السلطة في جميع صورها، إذ ظل المثقف في المجتمعات العربية والإسلامية مرتبطا بالسلطة، ولكن لا بد أن نعترف بأنه كلما تعقدت الأوضاع وتأزمت صارت الحاجة إلى المثقفين أكبر إذ أن من واجب “النخب” أن تطرح الأسئلة التي يتجنب الناس عادة إثارتها.

العرب: وماذا بعد الأسئلة؟

آمال قرامي: أن تستمر في الانحياز للفئات المهمشة والمستبعدة والمقموعة وغير المسموعة. غير أن التضامن مع هذه الفئات والانخراط في القضايا المطروحة لا يمكن أن يكون على حساب ممارسة النقد الذاتي. نشير في هذا السياق إلى الانهمام بالذات والتعلق بالتمركز والتمسك بالألقاب “الدكتور/المثقف/…” وعرض الذات على مواقع التواصل الاجتماعي، على حساب تحيين المعارف ومواكبة ما يجري في العالم والانخراط في الدفاع عن القضايا العادلة.

العرب: هل غيرت الزلازل (التوارث) التي حدثت في بعض الدول العربية ولو بقدر معين في نمط التفكير السائد من قبل؟

آمال قرامي: قد يعود فشل الثورات ومسارات التحول أو الانتقال الديمقراطي إلى هيمنة أنماط من التفكير والسلوك والتصورات والعلاقات على أغلب الناس الذين لم يجدوا الوقت، أو لم تكن لهم إرادة تغيير الأنساق ولا الرغبة في إعادة النظر في المنظومات الفكرية والقيام بالمراجعات في ضوء المقاربات والبراديغمات الجديدة.

ولعل الانسياق وراء النشاطية والمشاركة في الاحتجاجات لم يوفر فرصة لعدد من الفاعلين/ات حتى يعبّروا عن تجاربهم والخبرات التي تجمّعت لديهم طيلة هذه السنوات فظلت تصوراتهم/ن مغمورة وغير مرئية. ومع ذلك يلحظ المرء أنماط تفكير مغايرة لدى الجيل الجديد الذي ولد زمن الثورات وتأثر بالعولمة وخطابات المقاومة والصمود فابتكر أشكال تعبير متنوعة تعكس تصورات جديدة وإستراتيجيات مختلفة لمقاومة بنى الهيمنة المتشابكة. وربما يكون من المفيد رصد هذه الخطابات (تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي، ونصوص تعكس الاختلاف والغيرية..) وتحليلها لتبين الخلفيات الثاوية وراءها والوقوف عند الديناميكيات الجديدة.

10