الحرب الباردة التي لم تنته يوما

كيسنجر الذي بلغ من العمر عتيا رأى من واجبه أن يحذّر الغرب ويلفت انتباهه إلى حقائق غائبة عنه فليس من مصلحة الغرب أن تضرب العزلة على روسيا وأن تلحق ببوتين الهزيمة.
الخميس 2022/07/14
حرب النفوذ بين معسكرين

فلاديمير بوتين لا يثق بالغرب لأكثر من سبب. والأحداث الأخيرة أثبتت ذلك.

القصة بدأت مع ميخائيل غورباتشوف، الذي شغل منصب رئيس الدولة بين عام 1988 و1991، ورئيسا للحزب الشيوعي منذ عام 1985. وكان يشار إليه في الصحافة الغربية كقائد قادم من جيل أصغر ينتظر منه أن يحدث التغيير.

بعد ثلاث سنوات من توليه منصب الرئاسة ثبتت توقعات الغرب، وأحدث غورباتشوف التغيير، وكانت سياساته التي عرفت بـ”غلاسنوست وبيريسترويكا” وإلغائه الدور الدستوري للحزب الشيوعي، سببا في تفكك الاتحاد السوفييتي وإنهاء الحرب الباردة، أو هكذا بدا الأمر.

على عادته في مثل هذه الحالات، لم يبخل الغرب على غورباتشوف بالجوائز، وتم منحه ميدالية أيتوهان للسلام، وجائزة نوبل للسلام، وجائزة هارفي، إضافة إلى العديد من شهادات الدكتوراه الفخرية .

تفكك الاتحاد السوفييتي وتدميره لم يتم بسبب عيوب هيكلية، بل بسبب إصلاحات حقبة غورباتشوف نفسها. حيث منح الزعيم السوفييتي مزيدا من السلطات السياسية والاقتصادية إلى الجمهوريات الخمس عشرة التي شكلت الاتحاد، وأبعد الحزب الشيوعي عن الحكم، وأذن بإجراء انتخابات في كل جمهورية للمجالس المخولة بالسلطة التشريعية والدستورية.

كان من الواجب أن تكون أوكرانيا "الجسر الذي يربط روسيا بأوروبا، بدلا من ذلك حدث الانقسام، وأصبحت روسيا معزولة بشكل كامل، وتبحث عن تحالفات دائمة في مكان آخر، لذلك لا بد أن نكافح للتوصل إلى سلام طويل المدى"

يقال اليوم إن غورباتشوف عمل كل ذلك عن حسن نية. ولكن يبدو أن من يتحدثون عن النوايا الطيبة لم يقرؤوا ما قاله فلاديمير لينين يوما من أن “جهنم مبلّطة بالنوايا الحسنة”. وسرعان ما تضخمت الفوضى الاقتصادية وساد عدم الاستقرار المالي، بعد أن احتجزت روسيا والجمهوريات الأخرى ثلثي الإيرادات التي كان من المفترض أن تذهب إلى الميزانية الفيدرالية، مما أجبر وزارة المالية السوفييتية على طباعة 28.4 مليار روبل في عام 1990.

ما بدأه غورباتشوف أكمله بوريس يلتسين، الذي انتخب في 29 مايو 1990 رئيسا لمجلس السوفييت الأعلى الروسي، وبعد عام تم انتخابه بالاقتراع الشعبي المباشر ليتولى منصب رئيس الجمهورية الروسية السوفيتية الاتحادية الاشتراكية، وكانت وقتها إحدى الجمهوريات الخمسة عشر المكونة للاتحاد السوفييتي.

تعهد يلتسين بتحويل الاقتصاد الاشتراكي الروسي إلى اقتصاد سوق رأسمالي، وعلاج البلاد بالصدمة الاقتصادية وتحرير الأسعار والخصخصة. ولكن ما حدث شيء آخر.

بدلا من إنشاء شركات جديدة، أدت ليبرالية يلتسين إلى هيمنة الاحتكارات الدولية على الأسواق السوفييتية السابقة، مستفيدة من الفرق الكبير بين الأسعار المحلية للسلع القديمة الروسية والأسعار السائدة في السوق العالمية، وانتهت الممتلكات الوطنية والثروة في أيدي قلة بسبب هذا التحول الكلي المفاجئ في الاقتصاد.

لم يسارع الغرب للوقوف إلى جانب يلتسين، ولم يسبغ عليه الجوائز. وبينما سارعت أوروبا الغربية إلى دعم دول أوروبا الشرقية، اتخذت موقف المتفرج مما يحدث داخل روسيا.

لم يضيع الغرب الفرصة للتشفي من العدو اللدود على مدى سبعين عاما. ولم يقدم العون والمساعدة للبلد الذي قدم للعالم يوما روائع الأدب والمسرح والموسيقى والفنون والباليه والأوبرا والسينما. وراح الغرب، منتشيا، يراقب انهيار روسيا بعد أن ضمن تفكك الاتحاد السوفييتي. بل يمكن أن نقول إن روسيا تحولت إلى غنيمة حرب.

وهذا ما يعرفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جيدا، وهو الذي أعلن أن “زوال الاتحاد السوفييتي كان أعظم كارثة جيوسياسية” في القرن العشرين. وقد أكد ذلك في خطاب إعلان ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 بقوله “ملايين الناس ناموا في بلد واحد واستيقظوا في بلدان مختلفة، وأصبحوا بين عشية وضحاها أقليات عرقية، وأصبح الروس أكبر مجموعة في العالم يتم تقسيمها حسب الحدود”.

انطلاقا من هذه القناعات قرر بوتين غزو أوكرانيا وهي قناعات مختلفة للغاية عن قناعات الغرب، خاصة أن الرئيس الروسي يعتبرها حربا عادلة وشجاعة وناجحة. وذلك وفقا لأستاذ التاريخ الدولي في “مدرسة لندن للاقتصاد” فلاديسلاف زوبوك الذي تحدث في مقال نشرته “فورين أفيرز” عن حلم العديد من صانعي السياسة والمحللين بأن ينتهي الصراع في نهاية المطاف ليس فقط بانتصار أوكرانيا، بل أن يعاني نظام بوتين من نفس مصير الاتحاد السوفييتي، وهو “الانهيار”.

أخطأ الغرب مرتين، في المرة الأولى عندما أعلن ترامب حربا تجارية ضد الصين. وفي المرة الثانية عندما دفع ببوتين لغزو أوكرانيا، بدلا من البحث عن حلول سلمية

المقارنة، كما يرى زوبوك بين التورط الكارثي للاتحاد السوفييتي في أفغانستان والغزو الروسي لأوكرانيا يقوم على قراءة خاطئة للتاريخ، لأن الاتحاد السوفييتي لم ينهر للأسباب التي يحب الغربيون الإشارة إليها (هزيمة مذلة في أفغانستان، والضغط العسكري من الولايات المتحدة وأوروبا، والتوترات القومية في الجمهوريات المكونة له، وجاذبية الديمقراطية).

فشل السياسات الاقتصادية السوفييتية إلى جانب سلسلة من الزلات السياسية للزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف هي التي تسببت في تدمير البلاد ذاتيا.

يراهن بوتين على أن الاحتياطيات الكبيرة لروسيا ستسمح للبلاد بتحمل أيّ عقوبات تنتج عن غزوه لأوكرانيا.

بينما توقع الغرب أن يؤدي انهيار العملة الروسية إلى احتجاجات واسعة النطاق. حتى أن البعض تكهن بإمكانية الإطاحة بالقيصر بوتين. لكن لم يتحقق أيّ من هذا. اتخذت الحكومة الروسية إجراءات أعادت الروبل في النهاية إلى مستويات ما قبل الغزو.

أخطأ الغرب مرتين، في المرة الأولى عندما أعلن ترامب حربا تجارية ضد الصين. وفي المرة الثانية عندما دفع ببوتين لغزو أوكرانيا، بدلا من البحث عن حلول سلمية.

هل كان الغرب في حاجة إلى رجل بلغ المئة من عمره ليخرج عن صمته وينبه للأخطاء التي يمكن أن تدفع يوما إلى “أرمجيدون” يتصارع فيها العملاقان الصيني والأميركي عسكريا وتكنولوجيا؟

هنري كيسنجر، الذي بلغ من العمر عتيا، وبالكاد هو قادر على الحركة، رأى من واجبه أن يحذر الغرب ويلفت انتباهه إلى حقائق غائبة عنه. فليس من مصلحة الغرب أن تضرب العزلة على روسيا وأن تلحق ببوتين الهزيمة.

كان من الواجب أن تكون أوكرانيا “الجسر الذي يربط روسيا بأوروبا، بدلا من ذلك حدث الانقسام، وأصبحت روسيا معزولة بشكل كامل، وتبحث عن تحالفات دائمة في مكان آخر، لذلك لا بد أن نكافح للتوصل إلى سلام طويل المدى”.

ولا يفوت كيسنجر أن ينبه أيضا إلى أن “تكنولوجيا القوة قد تطورت بشكل يفوق الخيال، والآن ارتبطت القوة بالذكاء الاصطناعي، حيث يمكن أن تطور الآلة أحكامها”.

والمخيف “أنه لا يمكن لأيّ قوة أن تكسب الصراع، وأن نتيجة ذلك الصراع ستكون أكثر خطورة من الحروب العالمية التي دمرت الحضارة الأوروبية”.

مازال أمام الإدارة الأميركية ومن ورائها أوروبا المترددة فرصة لإصلاح الخطأين. فليس من الحكمة، كما يقول كيسنجر، دفع الأعداء للتحالف معا!

9