الحجر المنزلي إقامة فخمة لا تشبه السجن

الوقاية من فايروس كورونا الذي يصطاد الناس حيثما يتجمعون في الشوارع تستحق أن يلزموا بيوتهم لفترة محددة ويؤثثوا يومهم حتى لا يصابون بالضجر.
الاثنين 2020/04/13
عيشوا الحياة وراء باب النجاة

يتأفف القابعون في المنازل من فترة الحجر الصحي في البيوت التي فرضتها السلطات ورأى الأطباء أنها أنجع الحلول الأولى للحماية من انتشار فايروس كورونا الذي اجتاح العالم. الذين لا يعون خطر هذا الوباء يقولون إن إلزامهم بالبيت هو بمثابة الحكم بالسجن، لأنه نوع من تقييد الحرية، لكن الذين قضوا فترات من السجن يرون غير ذلك، فهي عطلة فخمة في المنزل بين العائلة.

تونس- لا مظاليم في الحجر المنزلي، هذا ما يقوله صالح الأسمر التونسي الذي قضى سنوات طويلة في الغربة بعضا منها وراء أبواب السجن ندم عليها اليوم.

قد يستحق المرء أن يدخل السجن لفترة من أجل إدراك غاية ما، يقول الأسمر الذي يبلغ من العمر اليوم (61 سنة)، إنه حين دخل إلى روما في أواخر ثمانينات القرن الماضي، كان ينام في الحدائق والبيوت الخراب، أو في البونسيونات الرخيصة في الربيع والصيف وحتى الخريف، فذلك ممكن لشباب أتوا لتحقيق أحلامهم التي اكتشفوا أنها سراب، لكن شتاء أوروبا بارد، بل قاتل، لا يستطيع أعتى الرجال تحمل برودة تحت الصفر.

يواصل الأسمر الذي كان متعلقا بالوهم آنذاك حكايته، لم يكن الأمر يحتاج إلى بيت خال من مالكيه لخلعه والإقامة فيه، ففي الشتاء الطويل، لا أعمال موسمية، حتى سرقة محافظ النقود تصبح مستحيلة لأنها مخبأة تحت المعاطف، لذلك لا بد من إقامة كاملة فيها الغذاء والدواء، والتلفزيون لم لا.

الأسمر كان يجيد التجارة، لكنها لم تحالفه، وعمل كثيرا في القطاع الفلاحي وهو عمل موسمي أجره لا يغطي تعبه كما يقول، ودفعه الجوع في بلاد الغربة مرات إلى السرقة ودفع ثمنها باهظا من عمره.

الأسمر الذي كان يعمل في الأيام الدافئة في التجارة متنقلا بين الأسواق، وعلى البسطات في شوارع العاصمة الإيطالية، وقد أجبرته الظروف على السرقة، فهو يكره الجوع ككل البشر العاديين.

اِبعد عن الفايروس وغنّ له
اِبعد عن الفايروس وغنّ له

يدعي الأسمر أنه ابتدع إقامة شتوية مريحة نوعا ما، أو على الأقل أفضل من العراء، وهي أن يرتكب جرما لا يزيد عقابه عن ثلاثة أشهر تبدأ مع نهاية الخريف وتنتهي مع إطلالة شمس الربيع ليعود إلى الحياة.

 ألا يستحق الدفء في الشتاء الأوروبي بعض التضحيات؟ كذلك الوقاية من «الغول» غير المرئي، والذي يصطاد العباد في الشوارع وحيثما يتجمعون، تستحق أن يلزم الناس بيوتهم أياما تحددها السلطات ومن ورائها الجيش الأبيض ليظل وحده كالكلب الشارد كما يتندر التونسيون الذين يشجعون على الالتزام بالحجر في المنازل خلال هذه الأيام العصيبة. يقول الأسمر، وهي كنية اكتسبها من لونه الحنطي الداكن، إنه في التسعينات لا وجود لوسائل تسلية في السجن غير قناة التلفزيون الرسمي (راي أونو)، والتي كانت برامجها مملة في مجملها، عكس منازل اليوم التي تتوفر على تلفزيونات وآلاف المحطات، وهواتف ذكية وكمبيوترات وإنترنت وآلات تصوير رقمية، ومطبخ.

ظاهرة السجن مقابل الدفء صار يعرفها كثيرون ممن هاجروا حين كانت إيطاليا دون تأشيرة حيث كانت لا تطرد المهاجرين إلا إذا اقترفوا جرائم خطيرة، ويبدو أن الأسمر ليس هو من ابتدعها، ذلك ما يظهر في حكايته عن شاب مغربي حل بروما وهو في العشرين، لكنه كان لا يريد أن يكوّن ثروة من تجارة المخدرات، أو يحصل على إقامة بالزواج من عجوز إيطالية ميسورة الحال، هو أتى ليدرس ويتحصل على شهادة جامعية، فأشار عليه العم عمار أقدم المهاجرين التونسيين في روما أن يدخل السجن فهناك يدرسون ويتخرجون، وفعلا يقول الأسمر إن هذا الشاب دخل بتهمة مخدرات لست سنوات درس خلالها وتخرج وهو الآن يعمل مترجما، حتى الأسمر يتقن اليوم اللغة الإيطالية قراءة وكتابة، ويدعي أنه خبير في اللهجات الإيطالية من باليرمو إلى نابولي. يهون السجن من أجل مرتبة اجتماعية كما يهون الحجر الصحي من أجل حياة بلا سقم.

أسوأ ما في السجن، كما يقول الأسمر الذي يدعي أيضا أنه خبير في هذا المجال، هو أن تعد الأيام فهي بذلك تطول مهما كانت قصيرة، لذلك كان يفكر كيف يعيشها كما في الحرية، أي خارج الأسوار. ويقصد بذلك أنه لا بد أن يؤثث المرء يومه حتى لا يصاب بالضجر.

وحين يستبد القلق بالأسمر، كان يختار أغنية يحفظها الجميع أو أصدقاؤه، ولا توجع القلب كما يقول، يرفع صوته تدريجيا، يشاركه الذي بجانبه ثم الذي بعده، وهكذا ينظم احتفالا بأغنية دون أن يبالغ في هذه العادة. المشاركة في الغناء تطرد الهواجس وتطارد الملل لمن يعيش وحيدا أو من يعيش في مجموعة.

الوقاية من العدو غير المرئي تستحق أن يلزم الناس بيوتهم أياما ليظل الفايروس وحده شاردا ثم يغادر، كما يتندّر التونسيون
الوقاية من العدو غير المرئي تستحق أن يلزم الناس بيوتهم أياما ليظل الفايروس وحده شاردا ثم يغادر، كما يتندّر التونسيون

بقول الأسمر، أنا اليوم أعيش بمفردي فهنيئا لمن يعيش في عائلة، لكنني لا أخاف الوحدة كما في الغربة، المدينة التي تربيت فيها ولي فيها أقارب وأصدقاء.

أما في الليل ومنذ الأيام الأولى من السجن، يختلق الأسمر حبيبة في خياله، وغالبا ما تكون حبيبته التي تركها في الحارة، يسامرها ويواعدها ويحلم معها بحياة هنيئة. أما في الحجر يقول الأسمر، هنيئا لكم اليوم تحاكون وتسامرون من تريدون من الأصدقاء والأحبة والأهل بالصوت والصورة مهما بعدت المسافات.

في السجن، دائما هناك بقعة ضوء يرى الأسمر من خلالها الحياة في الحرية، هكذا يسمي الحياة خارج الأسوار، بقعة الضوء تجعله يشعر دائما أن الغد أفضل، وأنه هناك حياة في سلام.

يحب صالح الأسمر المطبخ، ففي السجن لا يوجد هذا الركن المزين بالطناجر وعلب البهارات، كما لا توجد أقلام زينة ولا ألوان، ولا حتى أجهزة تبث الموسيقى التي نحب، يقول إنه كان يقضي جزءا من الليل يطبخ طعاما تقليديا على فتيلة مغمسة في الزيت، ليس جوعا ولكن حصة من التسلية، المطبخ مجال للإبداع يمكن للواحد أن يقضي فيه ساعات في اليوم يصنف ويبتكر ألوانا من الأطعمة المالحة والحلوة، هكذا أنا أقضي أيامي في الحجر، لا وقت لدي ليتوه فكري في الفراغ.

قد يستحق الشتاء الدافئ ثلاثة أشهر من السجن، ويمكن أن تستحق شهادة جامعية سنوات وراء القضبان، لكن حتما يستحق الصيف القادم وبهجة الحياة فيه أن نضحي بأيام من الشتاء في الحجر المنزلي نصالح فيها ذواتنا وعائلاتنا ونشتاق فيها للشارع والبحر.

20