الحب الأفلاطوني أكبر كذبة لفيلسوف يكره المرأة ويحتقرها

أفلاطون مجّد نوعا آخر من الحب ونوعا آخر من النساء.
الخميس 2025/03/06
صاحب المدينة الفاضلة كان يعادي الحب

هل كان أفلاطون حقا نصيرا للمرأة؟ هل كان أول فيلسوف يدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة، كما هو شائع في الكثير من الكتب الفلسفية؟ أكان حقّا رسولا لحقوقها في العالم القديم؟ وهل سبق حركات تحرير المرأة عندما دعا إلى عتقها من سجن الحريم؟ هذه الأسئلة، التي وصفت بأنها لغز محير، محور دراسة "أفلاطون والمرأة" للفيلسوف د. إمام عبدالفتاح إمام.

يرى المفكر د. إمام عبدالفتاح إمام في دراسته “أفلاطون والمرأة”، أن أفلاطون في محاورة الجمهورية، لم يكن من دعاة تحرير المرأة أو مساواتها بالرجل. ويبيّن أنه في الكتاب الثالث، يعبر أفلاطون، بالعكس، عن احتقاره للمرأة ويحذرنا من أن نجعل الشباب يقلدونها، ثم نراه بعد إلغاء الملكية، بالنسبة إلى طبقة الحراس، يختار مجموعته من النساء “الصفوة ليجعلهن حراسا رجالا” بعد أن يتخلصن من كل خصائص الأنثى؛ لأنه لم يتبق لهن من وظائف.. بعد إلغاء دور المرأة التقليدي في الأسرة، فكان لا بد أن تشارك المرأة الرجل في الوظائف وإلا بقيت بغير وظيفة وانهارت التربية التي هي إعداد المواطن للوظيفة التي تناسبه. ولقد جاء إلغاء الأسرة نتيجة لبعض الإصلاحات التي استهدفت القضاء على الصراع المدني، وكانت الملكية (بما فيها ملكية المرأة) في مقدمة عوامل هذا الصراع.

كره المرأة واحتقارها

يلفت إمام إلى أن كراهية أفلاطون للثروة ـ ومن ثم للملكية بصفة عامة ـ كانت مسايرة لمبادئه الميتافيزيقية، التي أدت إلى هذه التطورات كلها؛ مما جعلنا نستطيع أن نقول “إنّ أفكار أفلاطون في ميدان الأخلاق والتربية والسياسة، تدعم آراءه الميتافيزيقية، كما أن آراءه الميتافيزيقية بدورها تساند أفكاره في تلك المجالات.” معنى ذلك كله أن أفلاطون لم يرد “تحرير المرأة” التي هي نصف المجتمع، ولو أراد ذلك حقّا، ما ترك المرأة في القاعدة العريضة المنتجة من المجتمع بوضعها المتدهور، دون أن يلقي إليها بالا، ولا مجرد إشارة.

إن وضع المرأة في هذه الطبقة الدنيا، ارتبط بوجود الملكية، تماما مثلما ارتبط تحررها المزعوم بإلغاء هذه الملكية، ومن ثم إلغاء الأسرة. لم يتحدث أفلاطون عن حقوق المرأة من حيث هي امرأة؛ وعند حديثه عن محاورة القوانين كيف أنه لا يرى للمرأة حقوقا “وكيف كان يمكن له أن يفكر في حقوق المرأة، وهو نفسه لم يفكر في حقوق الرجل إلا بأقل قدر ممكن؟ لقد كانت المسألة نتيجة منطقية لمبادئه الخاصة؛ لأنّ كل عضو لا بد أن يقوم بالعمل الذي يناسبه.”

ولما لم يجد للمرأة وظيفة ـ لأن وظيفتها الطبيعية هي أن تكون ربّة منزل ـ بعد إلغاء دورها التقليدي في الأسرة؛ فقد ذهب إلى أنها قادرة على حمل الدرع، وركوب الخيل، والدخول في سلك الجندية؛ لتكون مقاتلة أو احتياطية للمقاتل؛ “فالرجال والنساء سيذهبون إلى القتال معا، بل سيصحبون معهم من يستطيع من أبنائهم،” كما لو كان لسان حال أفلاطون يقول إما أن تكون المرأة مدبّرة منزل أو تكون رجلا.

الفيلسوف وضع المرأة في طبقة دنيا بينما كانت آراؤه في الحب بين الرجل والمرأة صادمة للكثيرين اليوم
◙ الفيلسوف وضع المرأة في طبقة دنيا بينما كانت آراؤه في الحب بين الرجل والمرأة صادمة للكثيرين اليوم

ويلاحظ إمام أن كراهية أفلاطون للمرأة قائمة، حتى في محاورة الجمهورية نفسها، فهو لا يتحدث عنها، بوصفها امرأة، إلا بكثير من الاحتقار، فهو يصنّفها مع الحيوان والأطفال والمجانين.. إلخ. ثم هو يضعها من بين مقتنيات الرجل، وما يمكن أن يمتلكه، ولا يريد أن تكون العلاقة بينهما مبنية على المشاعر والحب والود والصداقة؛ إنه يريدها علاقة “لا شخصية”، بل إنه يصل في ازدرائه للمشاعر الطبيعية للمرأة وفي امتهانه لكرامتها، إلى حدّ القول إن المحارب الشجاع، ينبغي أن يكافأ على بسالته بالمزيد من النساء أو من “حقوق التناسل”، وعلى المرأة أن تقبل عن طيب خاطر ذلك الوضع الذي تكون فيه مجرد وسيلة لمكافأة الشجعان من المحاربين.

وإذا كان قد بدأ بتحذير الشباب من محاكاة النساء في الكتاب الثالث، فقد انتهى في الكتاب الثامن ـ وهو يستعرض الصور المنحطة للتنظيم السياسي ـ إلى الربط بين المرأة وانحطاط الحكم؛ فهو يطرح هذا السؤال: كيف تتشكل صورة الشاب الطموح في نظام الحكومة “التموقراطية”؟ ويجيب “تتشكل أولا من خلال أحاديث أمّه، حين تشكو من أنّ أباه لم يحتلّ مكانة بين أصحاب المناصب؛ ممّا ينتقص قدرها بين النساء الأخريات، كما أنها تراه لا يعبأ بجمع المال إلا قليلا، ويعجز عن الدخول في معارك كلامية، ومواجهة الإهانات سواء أكان ذلك في المجالات العامة أو في المحاكم. ثم إنها تراه دائما لا يفكر إلا في ذاته، ولا يعاملها إلا معاملة غير المكترث… كلّ هذا يبعث في نفسها السخط، فتنبئه بأنّ أباه ليس رجلا بالمعنى الصحيح، وبأنه متهاون إلى حدّ الإفراط، وتلقي على مسامعه العديد من هذه الصفات التي يحبّ أمثالها من النساء أن يردّدنها في هذه الحالات.”

ويضيف “لا ينسى أفلاطون في هذا المقال أن يذكرنا أن هذا هو أسلوب الخدم؛ “فالخدم.. يخاطبون الابن سرا على هذا النحو.” هكذا يصوّر أفلاطون المرأة في الأسرة العادية، عندما تكون زوجة وربة منزل على أنها السبب الرئيسي لفساد المجتمع، فالزوجة تهتمّ بمصالحها الأنانية الخاصة، وتدفع زوجها وابنها إلى الفساد، وكأنها “بندورا” التي صوّرتها الميثولوجيا اليونانية بوصفها المصدر الأول لجميع الشرور.

إن رأي أفلاطون في المرأة بصفة عامة، لا المرأة المسترجلة من طبقة الحراس، بل جنس الأنثى عموما، لا يختلف كثيرا عمّا عرضناه الآن. ونودّ هنا أن نشير إلى الصورة الآتية من محاورة الجمهورية؛ يتساءل سقراط في هذه المحاورة عن طريقة معاملة الأسلاب والغنائم في الحرب، فيقول “أتوافق على سلب الموتى بعد النصر؟” ثم لا يلبث هو نفسه أن يجيب عن هذا السؤال إجابة ذات دلالة خاصة؛ يقول “إنّ من الجشع المرذول أن ينهب المرء ميتا؛ لأن معاملة الجثة وكأنها عدو وضاعة نفس لا تليق إلا بالنساء”. لأنّ العدو الحقيقي في نظر أفلاطون هو الرّوح، وقد تلاشى ولم يترك سوى الأداة التي كان يحارب بها، وما أشبه من يفعلون ذلك بالكلاب التي تهجم على الحجر الذي ضربها دون أن تمسّ من ألقاه. ومرة أخرى نجد الربط وثيقا بين السلوك النسائي الذي يصفه ﺑ”الحقارة” وبين سلوك الحيوان.

الحب الأفلاطوني

◙ اختلاف مذهل
◙ اختلاف مذهل لأدوار المرأة 

يؤكد إمام أنّ ما يراه البعض اختلافا مذهلا بين دوري المرأة في “الجمهورية” و”القوانين”، لا يرجع إلى أنّ أفلاطون غيّر آراءه أو عدّل موقفه من طبيعة المرأة وقدراتها، وإنما جاء الاختلاف من وضع الملكية الخاصة في المدينتين الفاضلتين: في المدينة الأولى اختفت الملكية فاختفت الأسرة، أمّا المدينة الثانية في “القوانين” فقد عادت الملكية والأسرة؛ فعاد الدور التقليدي للمرأة. وفي الحالتين، كان تصور أفلاطون للمرأة واحدا؛ إنها “ملكية خاصة” للرجل، إذا تم إلغاؤها تحررت من الامتلاك وتحولت إلى رجل؛ لأنها بغير دور ولا وظيفة. أمّا إذا عادت الملكية، عاد الرجل إلى امتلاكها من جديد.

وهكذا تصوّر أفلاطون أنّ المرأة ملكية خاصة تلحق بممتلكات الرجل، وعندما تتحدّد الأسرة، تظهر وظيفتها؛ فلم يستطع أفلاطون بسبب البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الجديد أن يتابع دور “المرأة الثوري” الذي يبدو أنه ينتج منطقيّا من مثل هذه المعتقدات. ففي مثل هذا المجتمع الجديد، لا بدّ أن تختلف طبيعة المرأة عن طبيعة الرجل؛ فهي لا بد أن تكون طاهرة نقية محترمة مهذبة؛ حتى تليق بأن تكون زوجة خاصة تصون شرعية الوارث الذي سوف يرث هذه الملكية. أمّا الرجل فكان عليه أن يستعيد صفات النّبل والشهامة التي كانت أبعد ما تكون عن صفات الحارس من النوع المثالي.

وفي ما يتعلق بالحب الأفلاطوني والمرأة يلفت إمام إلى إن هجوم أفلاطون على الجنسية المثلية واعتبارها انحرافا “ضد الطبيعة”، لا يعني بالضرورة أنه يعود بالعلاقة الجنسية إلى وضعها “الطبيعي” بين الرجل والمرأة، بل الملاحظ أن أفلاطون لا يتحدث عن العلاقة الجنسية، أيا كانت، إلا بقدر غير قليل من الاحتقار، فحتى هذا الوضع الطبيعي “بين الرجل والمرأة” ينبغي أن يكون في أضيق الحدود وبقصد الإنجاب فقط. وذلك يتّسق مع موقفه الميتافيزيقي العام الذي يحتقر الجسد ولذّاته وشهواته.. إلخ.

ويضيف لقد كنا نتمنى أن يكون الحب الأفلاطوني “الذي طبّقت شهرته الآفاق،” كما يذهب بعض الباحثين، “عنوانا” على ضرب خاص من الحب بين الرجل والمرأة، يتجردان فيه عن علاقة الجسد ويسموان إلى الصّلة الروحية المجردة؛ فيكون هو الحب العنيف أو الهوى العذري أو التسامي.. إلى آخر هذه الأوصاف الجميلة؛ أقول، كنا نتمنى أن يكون الحب الأفلاطوني على هذا النحو السامي من العلاقات بين الرجل والمرأة، حتى بغض النظر عن العلاقة الجنسية بينهما، لكنه للأسف كان تساميا “للجنسية المثلية … وإعلاء للواط.”

◙ أفلاطون يصوّر المرأة في الأسرة العادية عندما تكون زوجة وربة منزل على أنها السبب الرئيسي لفساد المجتمع

ويتابع يقول جورج ساتون “عندما نفكر في الحب الأفلاطوني، تخطر لنا الصداقة الروحية التي تقوم بين رجل وامرأة، إلا أن أفلاطون كان يفكر في قيام صداقة روحية بين رجل وصبي، وكان الحب الأفلاطوني عنده إعلاء للواط، والحب الصادق كما يقول في المأدبة هو الطريقة الصحيحة لمحبّة غلام.” ومن الغريب حقّا أن نجده طوال المحاورتين المخصّصتين للحب، وهما “المأدبة” و”فايدروس”، يذهب إلى أن حب النساء أمر مستنكر كريه.

ولا أحد يعترض ـ بما في ذلك سقراط ـ على تفسيرات الحب التي يقدّمها بوزانياس وأرستوفان، وهما معا يحملان بشدّة على الجنسية المغايرة، أو الوضع الطبيعي للعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة. فبوزانياس يقسم الحب نوعين، ما دامت هناك آلهتان تحملان اسم “أفروديت”؛ فهناك الحب المخصّص لأفردويت السماوية بنت أورانس “السماء”، ولا أم لها، وهي الأخت الكبرى.

ويوضح “هناك أفروديت الصغرى ابنة ديونمن زيوس، وهي أفروديت العامية، ولا شك في خسة ودناءة الحب الذي ينسب إلى أفروديت العامية.. وهو الحب الذي يعمر قلوب السفلة والعامة، ومن سماته أنه يتّجه إلى النساء والغلمان، إنه يتجه إلى الجسد لا الرّوح؛ فهو حب حسي لا روحي، ونجده أيضا يؤثر أن يكون محبوبه أضعف عقلا؛ لأنه يسعى إلى إشباع شهواته البهيمية ولا يعنيه كيف يشبعها.”

وعلينا أن نلاحظ أن أفلاطون في هذا النص يوحّد بين الاتصال الجنسي بالمرأة ـ وكان المفروض أن يكون هو الأمر الطبيعي ـ وبين إتيان الذكور، وهو وضع وصفه من قبل بأنه “مضاد للطبيعة،” لكنه هنا لا يستهدف مهاجمة الشذوذ الجنسي، بل يحمل على ممارسة الجنس أيّا كان نوعها.

ومن الملاحظ أيضا أن أفروديت العامية ـ راعية هذا الضرب من الحب ـ أصغر من أفروديت السماوية؛ ولهذا فإننا نلمس رعونة الشباب ونزقه، “وهي جاءت إلى الوجود عن طريق اتصال الذّكر بالأنثى اتصالا جنسيّا محضا. أما أفروديت السماوية التي ينسب إليها النوع الممتاز من الحب فلا أثر فيها للأنثى، وإنما جاءت من الذّكر وحده كما أنها الأكبر سنّا، أعني أنها بريئة من نزق الشباب وطيشه. فمن يعمر قلبه الحبّ السماوي، يميل إلى الذكور دون الإناث؛ فالذكر بالطبيعة أقوى وأذكى.”

واضح في هذا النص كراهية أفلاطون لأيّ اتصال جنسي؛ ومن ثم لم تكن حملته السابقة على الجنسية المثلية لذاتها، وإنما هي حملة ضد العلاقات الجنسية بصفة عامة.. “فالرجل الفاسد هو الذي يتجه إلى الحب العامي، أعني عشق الجسد لا الروح، سواء أكان هذا الجسد لامرأة أو لغلام؛ فهو ليس مخلصا في حبه، ولا بثابت على عهده؛ لأن ما يعشقه ليس بثابت. فعندما يذبل جمال الجسد، ينصرف بحبه إلى جسد سواه، وتتبخر وعوده وعهوده وكأنها أحلام. أما المحبّ النبيل، فهو يبقى على حبه ما بقي على قيد الحياة؛ لأن ما يهواه باق ما بقيت الحياة.”

13