الحبيب بورقيبة وقمة عودة الوعي وتصفير المشاكل

المملكة العربية السعودية استضافت القادة العرب في "قمة التغيير والتجديد" لتقول لهم بوضوح إن عليهم أن يتبدلوا ويتجددوا ليواكبوا روح العصر أو يستعدوا ليوم قريب تذهب فيه ريحهم.
السبت 2023/05/20
ترحيب بعودة سوريا

بعد 77 عاما و49 قمة بينها 31 قمة عادية و14 قمة طارئة و4 قمم اقتصادية واجتماعية وتنموية، تعقد القمة العربية رقم 50 في جدة بالمملكة العربية السعودية. ورغم أن القمة التي تعقد تحت مسمى “قمة التغيير والتجديد” هي قمة عادية إلا أنها مختلفة عمّا سبقها من قمم، وقد يصح أن توصف بقمة عودة الوعي وتصفير المشاكل.

خلال السنوات الثلاث الأخيرة جرت أحداث خلّفت آثارا عميقة على دول العالم دون استثناء، وعلى دول المنطقة بشكل خاص، وأجبرت دولا عربية مؤثرة على إعادة ترتيب أولوياتها وتبنّي “نهج جديد”.

المملكة العربية السعودية استضافت القادة العرب لتقول لهم بوضوح إن عليهم أن يتبدلوا ويتجددوا ليواكبوا روح العصر، أو يستعدوا ليوم قريب تذهب فيه ريحهم.

كفى اقتتالا، وكفى تبديدا للثروات على شعارات و”قضايا” وهمية. هناك مشاكل حقيقية أكبر من أوهامكم الطائفية والعرقية والقبلية، وأنفع من شعاراتكم التي لم تجلب للأمة العربية سوى المصائب والويلات.

نحن مختلفون، نعم، ولكن ليس من واجبي أن أعمل على تغييرك، سواء بالقوة أو بالموعظة الحسنة. واجبي أن أتعلم كيف أعيش معك. وهو ما لم نتعلمه على مدار 77 عاما منذ أن تنادينا إلى قمة عقدت في القاهرة عام 1946.

قمة جدة تقدم للعرب فرصة أخرى للنجاة، وتقول لهم “تغيروا قبل أن تتبددوا”. العالم اليوم يبحث عن حلول بعيدا عن كوكب الأرض، وأنتم تقتتلون على الفتات وعلى أفكار عفا عليها الزمن

هذه هي الرسالة التي أرادت دولة الإمارات العربية المتحدة أن تقولها للعالم أجمع عندما افتتحت في بداية شهر مارس/آذار الماضي “بيت العائلة الإبراهيمية” ليكون “رمزا للتفاهم المتبادل والتعايش المتناغم والسلام بين مختلف أبناء الديانات”، والأهم من ذلك بين “أصحاب النوايا الحسنة”.

أبرز ما في قمة جدة هي الدعوة التي وجهتها المملكة العربية السعودية للرئيس السوري بشار الأسد للحضور شخصيا، وذلك للمرة الأولى منذ العام 2010، بعد جهود دبلوماسية أفضت إلى إعادة دمشق إلى محيطها العربي بعد عزلة استمرّت أكثر من 12 عامًا على خلفية نزاع يعرف جميعنا حجم آثاره المدمّر على سوريا حيث أودى بحياة أكثر من 500 ألف شخص وشرّد الملايين داخل سوريا وخارجها. وكانت قمة سرت في ليبيا في آذار/مارس 2010 آخر قمة حضرها الأسد.

الخطوة المؤدية لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية بدأتها الإمارات العربية المتحدة في العام 2018، حين قررت إعادة علاقاتها مع دمشق.

ورغم أن المسؤولين السعوديين أيدوا علنا الدعوة للإطاحة بالأسد في ذروة النزاع، وضعت المملكة ثقلها لإنجاح الجهود الداعية لإعادة دمشق إلى “الحضن العربي”، إثر الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في شباط/فبراير الماضي.

وهو ما عبرت عنه السعودية على لسان وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان الذي اعتبر أن هناك إجماعًا في العالم العربي على أن “نهجًا جديدًا” حيال سوريا يتطلّب مفاوضات مع دمشق، سيكون ضروريًا لمعالجة الأزمات الإنسانية.

في الحقيقة الأزمة الإنسانية وإن فسّرت جزئيا التغير الحاصل في الموقف من سوريا، إلا أنها لا تفسّر كل شيء. التغير و”النهج الجديد” الذي بنته الرياض مؤخرا تفسّره عوامل ستة متداخلة لا علاقة لسوريا بها، وهي:

أولا، تسارع التطورات المرتبطة بفايروس كورونا خلال النصف الثاني من شهر كانون الثاني/يناير 2020. وانتشاره عبر العالم وما نجم عنه من عزلة وأزمة اقتصادية حادة.

ثانيا، انتشار الذكاء الاصطناعي إثر الوباء والتأثيرات العميقة المتسارعة التي خلفها بدوره على الاقتصاد.

ثالثا، أزمة الغذاء والطاقة التي سببها الغزو الروسي لأوكرانيا.

رابعا، عودة الحرب الباردة في الظهور مع تنامي الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين.

خامسا، هزيمة الإسلام السياسي وتراجع دول راهنت عليه عن مواقفها. واقتناع شعوب المنطقة أن الإسلام ليس حلا.

العامل السادس، التغيرات المناخية التي عمقت من أزمة الغذاء في العالم وزادت من رقعة الفقر. وهو ما يهدد بموجة غير مسبوقة من الهجرات غير الشرعية ونزاعات على المياه قد تتطور إلى حروب بين الدول.

التحديات التي يواجهها العالم اليوم تتضاءل أمامها الصراعات التي طالما بنيت على الأيديولوجيا والنزاعات الطائفية والعرقية. الصراع اليوم هو صراع وجود، إما أن نكون أو لا نكون

التحديات التي يواجهها العالم اليوم تتضاءل أمامها الصراعات التي طالما بنيت على الأيديولوجيا والنزاعات الطائفية والعرقية. الصراع اليوم هو صراع وجود، إما أن نكون أو لا نكون.

قمة جدة هي فرصة لعودة الوعي وقمة لإطفاء الحرائق المشتعلة في أكثر من منطقة حتى لا يفوتنا القطار فنقعد ملومين محسورين.

في الثالث من مارس/آذار عام 1965 زار الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، القدس وأريحا وتفقد مخيمات اللاجئين فيها، وكانت وقتها تحت السيادة الأردنية، وألقى خطابا شهيرا جاء فيه:

“ما كنا لننجح في تونس، خلال بضع سنوات، لولا أننا تخلينا عن سياسة الكل أو لا شيء، وقبلنا كل خطوة تقربنا من الهدف، أمّا هنا فقد أبى العرب الحل المنقوص، ورفضوا التقسيم. ثم أصابهم الندم، وأخذوا يرددون: ليتنا قبِلنا ذلك الحل، إذاً لكنّا في حالة أفضل من التي نحن عليها.

هي نصيحتي، التي أقدمها لكم ولكل العرب، حتى تضعوا في الميزان، لا العاطفة والحماس فقط، بل كذلك جميع معطيات القضية. وهكذا نصل إلى الهدف، ولا نبقى سبع عشرة سنة أخرى، أو عشرين سنة، نردد: الوطن السليب… الوطن السليب، دون جدوى”.

في الحقيقة هناك بين العرب من يلطم ويبكي منذ 1343 عاما؛ بالتحديد منذ العاشر من تشرين الأول/أكتوبر عام 680، دون أن يساهم بإضافة أيّ انجاز للإنسانية يستحق الذكر.

لم نصغ حينها لنصيحة الزعيم الحبيب بورقيبة، لسبب بسيط، كان لدينا ما نستر به عوراتنا الاقتصادية وفشلنا بما وهبه الله لنا من ثروات باطنية. اليوم لم تعد هذه الثروات تكفي، وإن كفت فإلى حين.

قمة جدة تقدم للعرب فرصة أخرى للنجاة، وتقول لهم “تغيروا قبل أن تتبددوا”. العالم اليوم يبحث عن حلول بعيدا عن كوكب الأرض، وأنتم تقتتلون على الفتات وعلى أفكار عفا عليها الزمن.

الفرصة مطروحة ليس أما السوريين فقط، بل أمام اليمنيين والسودانيين والليبيين واللبنانيين والعراقيين الذين تحولوا إلى دول فاشلة.. وآخرون في طريقهم للانضمام إليها ليصبحوا بدورهم فاشلين.

تمسكوا بالفرصة التي تقدمها لكم “قمة التغيير والتجديد” حتى لا ترددوا بعد سبع عشرة سنة أو عشرين سنة أخرى “ليتنا قبِلنا ذلك الحل، إذاً لكنا في حالة أفضل من التي نحن عليها”.

9