الحبكة المسرحية تشبه لعبة الشطرنج

مجيد الجبوري: الحبكة حركة الفعل وحركة الشخصية وحركة الزمن.
السبت 2021/12/11
الحبكة المسرحية لا تصنعها الشخصيات فحسب

عادة ما يختلط مفهوم الحبكة في النقد الأدبي بالعقدة، حيث يدلّ أحيانا على الشكل وأحيانا أخرى على المضمون. وفي المسرح يرى النقاد أن الحبكة هي الحركة الدرامية، لكن في المسرح العربي لا يزال ينقص المسرحيين التعمق في تحليل الحركة والتفاعل ورصد مفهوم دقيق للحبكة وتطوره، وهو ما يحاول رصده الباحث العراقي مجيد حميد الجبوري في كتابه الجديد.

يشكل كتاب “البنية الداخلية للمسرحية.. دراسات في الحبكة المسرحية عربيا وعالميا” لأستاذ فلسفة المسرح العراقي مجيد حميد الجبوري دراسة وصفية تحليلية تتناول مفهوم حبكة المسرحية، سعيا لتحديد ملامحه بعزله عن المفاهيم التي اختلطت به أو تداخلت معه في مجال الأبحاث النقدية والأدبية المتخصصة بدراسة المسرح.

وينطلق الجبوري من ثلاثة اجتهادات أولها اجتهاد نظري تخصص بتحديد المصطلح ومعرفة ماهيته ومتابعة تطوره عربيا وعالميا، والثاني اجتهاد فني، عمل على تحليل حبكة المسرحية للتواصل إلى العناصر المكونة لها، والثالث اجتهاد تطبيقي بحث في محاولة إيجاد توصيف محدد للأشكال المختلفة من الحبكات التي ظهرت في المذاهب والاتجاهات والأساليب الدرامية العالمية المختلفة ثم تطبيق ذلك على المسرحية العربية الحديثة.

الحركية والتفاعل

الحبكة المسرحية بنية درامية متكاملة تشتمل على عناصر خاصة بها تتفاعل وتتداخل مع البناء الدرامي العام

يحدد الجبوري في كتابه الصادر عن منشورات ضفاف، نماذج الدراسة التطبيقية في أشهر النصوص المسرحية العربية التي ظهرت بين عامي 1950 و1990 وذلك لأن التاريخ الأول، في اعتقاده، يمثل بداية ازدهار التأليف المسرحي في الوطن العربي، فبعد أن كان التأليف المسرحي العربي، في أغلبه، اقتباسا أو ترجمة أو إعدادا لمسرحيات عالمية، غدا ابتداء من نهاية أربعينات القرن الماضي وخمسيناته يتطرق إلى موضوعات عربية، وشخصيات عربية، وأجواء عربية ومحلية. وظهرت في تلك الفترة نصوص عربية مهمة لكتاب أثروا المكتبة العربية أمثال توفيق الحكيم في مصر، وخالد الشواف ويوسف العاني من العراق، وكاتب ياسين من الجزائر، وسواهم من البلدان العربية الأخرى.

أما التاريخ الثاني فقد أملته جملة من العوامل والظروف أحدثت تغييرا شاملا في المشهد الثقافي العربي، منها التغير في موازين القوى العالمية، وتفكك المنظومة الاشتراكية العالمية وحرب الخليج الثانية، حيث أدى ذلك إلى ظهور نصوص مسرحية اشتملت على موضوعات جديدة بمواصفات مغايرة.

ويرى الجبوري أن الحبكة المسرحية هي بنية درامية تعد جوهر المسرحية، وتتمثل بحركة فكرة تلقى في وسط ساكن جاعلة إياه وسطا متغيرا، تتحرك عناصره منتجة طاقة تتفاعل فيها ثلاث حركات رئيسية هي حركة الفعل وحركة الشخصية وحركة الزمن.

ويلفت إلى أن حبكة المسرحية في أبسط صورها أشبه بلعبة شطرنج بما فيها من تحدٍ لنا يعتد معظمه على حب الشطارة؛ والشطارة هنا تكمن في قدرة الحبكة على المناورة في عناصرها المتحركة باستمرار وديمومة متواصلة، وذلك لمرونتها واستيعابها للمتغيرات التي تطرأ عليها أثناء سير المسرحية، وتحدي الحبكة يأتي من قدرتها على تحدي ذكاء المتلقي في تقديمها تنويعات غير متوقعة؛ مستغلة إمكانية تشابك عناصرها وتداخلها، وإمكانية تشكلها بصور عديدة في الحالة الواحدة، بحسب مبدأ الاحتمال أو الرجحان؛ فالافتراضات الاحتمالية التي يسمح بها المنطق من جهة، وبوسعها الخيال من جهة أخرى تتحول عند المؤلف المسرحي المُجيد إلى وسائل لتجويد الحبكة وزيادة فاعليتها.

ووفقا لذلك فإن مصدر المرونة يرجع إلى مرونة حركة العناصر التي تتشكل منها الحبة المسرحية وهي: حركة الفكرة وحركة الفعل وحركة الشخصية وحركة الزمن.

ويؤكد الجبوري أن الحبكة المسرحية الجيّدة هي تلك التي تحقق علاقات جدلية بين مكوناتها؛ بخاصة المكونات التي تشكل نقاطا أساسية في تطورها: كنقطة الانطلاق ونقطة التحول، ونقطة الذروة ونقطة النهاية، فكل التطورات يفترض أن تبنى على وجود مقدمات تتضمن أسبابا ودوافع وحوافز تدفع باتجاه النتائج التي تتوقف عندها خطوط حركة الحبكة؛ ومثل هذه العلاقات الجدلية تختص بها طبيعة الجنس الدرامي فقط، فالطبيعة الحيادية للجنس الملحمي ووريثه الروائي، وكذا الرواية، تبتعد غالبا ابتعادا كثيرا عن الوضعية الأساسية، ما يؤدي إلى ظهور نتائج بعيدة الصلة، وأحيانا عديمة الصلة، بالوضعية الأساسية التي انطلقت منها.

ويتابع أن حركة الحبكة المسرحية تكشف، عموما، عن ثلاث وضعيات رئيسية تتداخل مع بعضها داخل الحبكة هي: الوضعية الأساسية، وضعية التعقيد، والوضعية النهائية. ويلخص والتر كير هذه الوضعيات على الوجه الآتي “هناك مرحلة بدائية في كل تغيير وهي المرحلة التي تبدأ فيها الضغوط بالنداء مطالبة بالجواب، وهناك مرحلة نهائية تكون المباراة بين الضغط والجواب قد أنتجت علاقة جديدة بين هذين الجانبين وحلة جديدة، أي وضعا جديدا”. بمعنى أن الحل يشكل وضعية جديدة تختلف عن الوضعية الأساسية، فحتى المسرحيات التي يتم فيها تأكيد وترسيخ الوضعية الأساسية مثل المسرحيات التعبيرية والطبيعية ومسرحيات العبث واللامعقول، فإن الوضعية النهائية التي تصل إليها المسرحية تأتي مختلفة عن الوضعية الأساسية التي بدأت بها حبكة المسرحية.

تطور الحبكة

دراسة الجبوري تسلط الضوء على وجود إهمال أو تجاهل أو إغفال لأهمية الحبكة المسرحية

يحلّل الجبوري نماذج من المسرحيات العربية التي اختصت بالأنماط الحبكية التي تبدو أكثر وضوحا وأقل تعقيدا من غيرها، وهي المسرحيات التي تضم حبكات من أنماط الحبكة الأحادية والحبكة المتوسعة ونمط الحبكات المتجاورة. ففي الحبكة الأحادية حلل مسرحيات “فلوس الدواء” و”المصيدة” ليوسف العاني، و”يا سلام سلم.. الحيطة بتتكلم” لسعد الدين وهبة، و”ليلى والمجنون” لصلاح عبدالصبور، و”السجين 95″ لعلي عقلة عرسان.

ويخلص إلى أن الحبكة الأحادية في المسرحية العربية الحديثة حساسة بطبيعة خطوطها الأحادية باتجاه أي استطرادات جانبية لحركة الشخصيات، أو أي امتدادات خارجية لحركة الفعل، أو أي اتساع في حركة الزمن؛ ذلك لأن أي انتشار أو توسع أو امتداد يضعف من حركتها ويوهن من فاعلية خطوطها، لذا ظهرت المسرحيات المؤلفة من فصل واحد أكثر ميلا للتماسك، وأكثر إثارة للاهتمام والترقب والتوتر من حبكات المسرحيات المؤلفة من فصول عدة، إذ ظهر في الأخير فائض كبير يمكن الاستغناء عنه.

وبالنسبة إلى نماذج الحبكة المتوسعة يدرس الجبوري مسرحيات “صورة جديدة” ليوسف العاني، و”شمس النهار” لتوفيق الحكيم، و”الكراهية بالمجان” لمحمد الشرفي، وخلص إلى أن عدم معرفة الحدود المناسبة للحبكة جعلت بعض المؤلفين العرب يوسعون من حدود الحبكة المتوسعة، لتقترب من نمط “الحبكات المتجاورة” أو نمط “الحبكات المتداخلة”، وذلك لاستعانتهم ببعض الوسائل الفنية التي تستخدم في المسرحية الملحمية كالرواية والأغاني والسرد والتعليقات الساخرة، وهي وسائل تستخدم لتحقيق أهداف إيقاظية، ولا تصلح لمسرحيات تستهدف الإيهام.

وهناك من استعانوا بوسائل فنية تستخدم في الأسلوب الدرامي المعروف بـ”مسرح داخل المسرح”؛ مثل وسائل القطع والانتقال بين المستويات المتعددة، وهي وسائل تستهدف إظهار ثنائيَيْ الحقيقة والوهم لكل حالة أو موقف تمر به المسرحية، وهي غاية بعيدة عن مسرحيات تسعى لإظهار الثنائية المذكورة.

أما في نماذج نمط الحبكات المتجاورة فيحلل الجبوري مسرحيات “سولارا” لمحمد الفيتوري، و”إيزيس” لتوفيق الحكيم، و”الحصار” لعادل كاظم، و”باب الفتوح” لمحمود دياب، و”صلاح الدين النسر الأحمر” والجزء الأول من “النسر والغربان” لعبدالرحمن الشرقاوي. وخلص إلى أن أغلب المسرحيات العربية الشعرية تميل إلى الانتظام في نمط الحبكات المتجاورة، وذلك لإمكانية هذا النمط على استيعاب الكثير من الاستطرادات والسرد والشعر والغناء، وإمكانيته لاستيعاب المتغيرات الأسلوبية في اللغة والإيقاع، ذلك لأن كل حبكة من حبكات النمط، بإمكانها أن تشكل وحدة أسلوبية خاصة بها.

ولاحظ أن بنية حبكاتها تكثر من أزمات التصعيد في مقابل قلة من أزمات التعقيد وندرة في أزمات الذرى، وربما يعود ذلك إلى كثرة استخدام وسيلتي القطع والانتقال؛ ما جعل بنية تلك المسرحيات تبدو أقرب إلى بنية التمثيليات التلفزيونية، أو ربما يعود إلى كثرة استخدام السرد والرواية والتعليق والخطاب المباشر، وكلها عوامل تضعف من التأثير النفسي لعموم الحبكات، وتسمح بزيادة الإيقاظ والتنبيه للجمهور في سعي لتحقيق كلية الأهداف التي تحاول المسرحية الملحمية تحقيقه، غير أن الهدف الإيقاظي لم يكن مؤثرا، في أغلب الأحيان، بحيث يؤدي إلى خلق رد فعل يجعل المتفرج يبادر إلى اتخاذ موقف فكري ما يعرض أمامه.

وفي تحليله لأنماط الحبكة في المسرحية العربية الحديثة ـ الفئة الثانية ـ نمط حبكتي التوازي، نمط الحبكات المتداخلة، نمط الحبكة المهشمة، نمط الحبكة المحيطية، يتوقف الجبوري عند مسرحيات: “المفتاح” ليوسف العاني، “الأجداد يزدادون ضرورة”، “مسافر ليل” “بعد أن يموت الملك” لصلاح عبدالصبور، “الزير سالم” لألفريد فرج، “الملك هو الملك” و”مأساة بائع الدبس الفقير” و”فصد الدم” لسعدالله ونوس، “فاوست والأميرة الصلعاء” لعبدالكريم برشيد، و”لعبة السلطان والوزير” للبوصيري عبدالله، و”مأساة جيفارا” لمعين بسيسو، و”الجثة المطوقة” لكاتب ياسين، و”يا طالع الشجرة” لتوفيق الحكيم، و”الباب” لغسان كنفاني، و”الحفلة دارت في الحارة” لفرحان بلبل.

الحبكة هي جوهر المسرحية وتتمثل بحركة فكرة تلقى في وسط ساكن جاعلة إياه وسطا متغيرا تتحرك عناصره

ويتوصل في ختام تحليلاته النظرية والفنية والتطبيقية إلى عدة نتائج، مشيرا إلى أن الحبكة المسرحية هي بنية درامية متكاملة تشتمل على أقسام ومكونات وعناصر خاصة بها، وأن هذه البنية تتفاعل وتتداخل مع البناء الدرامي العام للمسرحية، ليشكلا معا الصورة النهائية للنص المسرحي، وأنها أيضا بنية دينامية داخلية تنتج عن حركة فكرة تلقى وسط محيط ساكن، تحرك ذلك المحيط؛ محدثة فيه متغيرات، تنجم عن تفاعل حركة عناصر الحبكة منتجة طاقة تتكون من تآلف أو تعارض ثلاث حركات رئيسية هي حركة الفعل، وحركة الشخصية، وحركة الزمن.

ويبيّن أن البحث النظري في تطور شكل الحبكة في المسرحية قد توصل إلى أن هذا الشكل مرّ بثلاث مراحل تاريخية، حدثت فيها متغيرات أساسية، إذ كانت الحبكة الأولى حبكة بسيطة أحادية تتمسك بالوحدات الثلاث، واقترح البحث تسميتها “مرحلة الحبكة الأرسطية”؛ تلتها المرحلة التاريخية الثانية؛ التي شهدت فيها الحبكة توسعا في خطوطها الحركية واقترح البحث تسميتها “مرحلة الحبكة المتوسعة”، أما المرحلة التاريخية الثالثة فهي المرحلة التي تختص بالدراما الحديثة والتي شهدت فيها الحبكة إما توسعا للحبكة المتوسعة أو تكثيفا أو مدا، أو انشطارا أو تهشما لها أو تداخلا في مستوياتها واقترح البحث تسميتها “مرحلة الحبكة الحديثة”.

ويتابع أنه تبيّن من البحث والتحليل لنماذج المسرحيات العربية أن هناك إهمالا أو تجاهلا أو إغفالا لأهمية الحبكة المسرحية، وأن هناك جهلا ببنيتها، وأن معظم النصوص المسرحية لا تلتفت إلى التفاعلات التي تحدثها متغيرات حركة عناصر الحبكة، وأن التركيز في تلك النصوص ينصب إما على متابعة تطور خطوط الحركة الأخرى، دون انتباه لما يمكن أن تحدثه العلائق بين تلك الخطوط من متغيرات مؤثرة. ونظرا للجهل العام بالصور المتعددة للحبكة التي تختلف باختلاف الاتجاهات والمذاهب الدرامية، فقد أظهر التحليل التطبيقي للنماذج العربية وجود تناقض بين تأثيرات البناء العام وبين تأثيرات البناء الحبكي، ما أدى إلى إخلال في البناء الحبكي من جهة وإضعاف أو ترهل أو غموض أو تفكك في البناء العام.

ويؤكد الجبوري أنه في سعي من النصوص المسرحية العربية للتنوع أو إثارة الانتباه أو التبسيط أحيانا، فإنها حاولت الخلط بين المذاهب والاتجاهات الدرامية؛ دون الانتباه إلى ما يمكن أن يحدثه ذلك من إخلال في البناء الحبكي، إذ جعله ينتج تأثيرات تبدو متناقضة في أحيان كثيرة، مما يزيد من غموض تلك المسرحيات أو يؤدي إلى تفكك بنائها جاعلا إياها ضعيفة التأثير عند المتلقي.

13