الجوائز بوصفها استثمارا في الإنسان

الجوائز العربية عملت على تقريب المسافات ومحو الفوارق بين الأقطار مجتمعة، الثرية منها ومحدودة الدخل، فلا فرق بين متسابق وآخر إلا بمقدار ما يقدمه من إبداع وابتكار.
الثلاثاء 2022/03/08
تحفيز المبدع الثقافي

لماذا لا يقع ابتداع شكل من أشكال “العقوبات الثقافية” تُسلّط وتُفرض بصفة دورية على المبدعين المقصرين والفاشلين في إبهار وإمتاع جمهورهم، وذلك أسوة بالجوائز التي تُرصد للمتفوقين؟

ليس هذا الاقتراح الغريب والعصي على التنفيذ مجرد استجابة ومجاراة لمبدأ العصا والجزرة وإمعانا في العمل بثنائية الترغيب والتهديد، لكن من حق القراء مثلا أن يعاقبوا الكاتب الذي لا يدهشهم بعمل إبداعي جديد كل عام.

ويتم ذلك من خلال لجنة متخصصة في القراءة والنقد والتقييم، تقرر تسليط “عقوبة” أولى وثانية وثالثة على أصحاب الأعمال الرديئة التي لا ترقى إلى مستوى الذائقة المطلوبة والمنشودة.

ومن دون الدخول في تفاصيل هذه العقوبة ومدى فعاليتها الجزائية كالغرامة المالية أو الحرمان من النشر والطباعة وغير ذلك من أشكال العقوبات المترتبة، فإن هذه الإجراءات من شأنها أن تمنع الإنتاج الرديء، وتدفع باتجاه المزيد من الإبداع والابتكار.

قد يبدو هذا الاقتراح غريبا ويمثل شطحة من شطحات الخيال، لكنه يبقى محفزا ومحرضا على الإبداع من جهة، وتذكيرا بجسامة مسؤولية من يختار هذا الطريق من جهة ثانية.

العقوبات، كالجوائز في قيمتها التحريضية وأهميتها التحفيزية، تحمل بعدا ردعيا في تجنب الإنتاج السيء.

ربما أردنا من خلال ما تقدم من هذه السطور أن نلفت الانتباه إلى أهمية الإبداع وحساسيته في المجتمعات البشرية التي لا ترتقي إلا بأصحاب الابتكارات في شتى مجالات العلوم والآداب والفنون.

والأهم من ذلك كله، هو التركيز على نقيض العقوبات وهو الجوائز ودورها في إغناء المشهد الثقافي من خلال المنافسة كسبيل وحيد نحو الوصول إلى الأفضل والأنفع والأجمل.

طبعا، وجدت بعض الجوائز ذات المنحى التشهيري التي تندد بالأعمال السيئة، وذلك على سبيل الطرافة كجائزة “التوتة الذهبية” التي هي نقيض الأوسكار وتعطى لأسوأ فيلم وأسوأ ممثلين. وتعتبر هذه الجائزة نقطة سوداء في تاريخ الفيلم أو الممثل تلاحقه في مستقبله العملي، لكن الجوائز والتتويجات، ومنذ نشأتها في المجتمعات القديمة، تعتبر مؤشرا على مدى أهمية تفوق الفرد وعلاقة ذلك بالمجموعة.

المسألة الثقافية هي في طليعة اهتمامات البلدان المتقدمة لما لها من مساهمة من خلال الاستثمار في الإنسان وطاقاته الإبداعية المتجددة

الجائزة تُعرّف أولا بالمجال الذي أنشئت من أجله ثم تعرف بالمبدعين المتسابقين بعضهم بعضا كجائزة العويس الثقافية التي احتفت منذ أيام قليلة بنخبة من المبدعين العرب، هذا بالإضافة إلى ترسيخ محيطها الإقليمي والدولي.

وفي هذا الصدد، عملت الجوائز العربية على تقريب المسافات ومحو الفوارق بين الأقطار مجتمعة، الثرية منها ومحدودة الدخل، فلا فرق بين متسابق وآخر إلا بمقدار ما يقدمه من إبداع وابتكار.

ونجحت بلدان عربية في إنشاء جوائز ترتقي إلى العالمية كجائزة البوكر العربية التي أنشئت عام 2007 في مدينة أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة وبتنظيمٍ وتمويل مِن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة.

الجائزة تهدف إلى إبراز الكُتّاب المعاصرين في الأدب العربي، وتشجيع الإقبال على قراءة أعمالهم والأدب العربي عمومًا، بالأخص نشره عالميًا.

أما جائزة الشيخ زايد للكتاب فتمنح كل سنة للمبدعين في الثقافة، والمفكرين، والناشرين والشباب لمساهماتهم في مجالات التنمية، والتأليف، والترجمة في العلوم الإنسانية التي لها أثر واضح في إثراء الحياة الثقافية والأدبية والاجتماعية.

واللافت في الجوائز العربية أنها حملت أسماء أعلام لامعة كأبي القاسم الشابي في تونس، نجيب محفوظ في مصر والطيب صالح في السودان، مما يعطيها قيمة مضافة ويكسبها النزاهة من خلال لجان تحكيم من الأكفاء وذوي الخبرة والإلمام.

ومن البديهي التنبه إلى دور الجوائز في اكتشاف المواهب الشابة والتعريف بها أمام جمهور عريض في المنطقة والعالم، لكن لا يمكن الحديث عن جوائز دون محفزات مادية من شأنها أن تكسبها بريقها وتحرض المتسابقين على الدخول في مضمار المنافسة.

ومن غير المنطقي ألّا نولي مبلغ ما يقارب المليون دولار الذي يرافق جائزة نوبل مثلا أهمية فائقة، فهو ثروة حقيقية تمكن صاحبها من العيش في رغد إلى جانب الشهرة والقيمة الاعتبارية.

هكذا يصبح المال محفزا لصناعة الإبداع والتميز، وتتجلى أفضل الاستثمارات حين يلتقي المال والإبداع كما هو الشأن بالنسبة إلى دول خليجية كالسعودية والإمارات، إذ استطاعت الدولتان أن تنشئا جوائز ومسابقات يسعى لها كل المبدعين العرب، وذلك بفضل القيمة المادية والمعنوية لتلك الجوائز.

تأتي أهمية المسألة المادية في الجوائز العربية من كونها تلبي احتياجات المبدع العربي الذي لا ننكر أنه يعاني الخصاصة في عدة بلدان، مما يجعله هشا أمام تحديات معيشية أو يصيبه نوع من الوهن والانتكاسة الإبداعية.

المسألة الثقافية هي في طليعة اهتمامات البلدان المتقدمة لما لها من مساهمة من خلال الاستثمار في الإنسان وطاقاته الإبداعية المتجددة مما يجعلها من مسؤوليات الدول التي تنظم هيئاتها مثل هذه التظاهرات والجوائز كمحفز رئيسي للتنمية الثقافية.

وإذا كنا في مستهل هذه السطور قد تحدثنا عن “منح العقوبات الثقافية” بالتساوي، وعلى قدم وساق، مع الجوائز، وذلك على سبيل محاربة الرداءة والتشهير بها، فإنه وفي الختام لا بد من أهمية التحريض على الجودة في العمل الثقافي برصد الجوائز المحفزة.

وفي هذا الصدد يقول الكاتب المصري وجدي الكومي “كل كاتب محتاج إلى جائزة، وكل كتاب بحاجة إلى جائزة، وإذا لم يصب كتاب ما جائزة، سيصيب كاتبه جائزة ما أخرى عن كتاب آخر”.

9