الجنة من دون روبوتات ما بتنداس

لم أكن أتخيل أن يأتي يوم لا أجد فيه من يبادلني الحديث والابتسامات. والسبب التكنولوجيا، حيث يندر أن تجد من يرفع رأسه عن هاتفه "الذكي" في المقاهي أو وسائل النقل.
الجمعة 2025/01/10
عصر الروبوتات

حتى أكثر الناس ميلا للعزلة، وهؤلاء الذين يرددون دائما أن الوحشة أفضل من الأذى، يحتاجون من فترة إلى أخرى إلى الالتقاء بالناس وتبادل الحديث معهم، ولو اقتصر ذلك على توجيه السؤال التقليدي حول حالة الطقس.

اليوم، وبعد سبعين عاما، أستطيع أن أفهم مشاعر عجائز كنت أراهم واقفين في السوبرماركت لدفع ثمن ما اشتروه، فقط من أجل استراق بعض الوقت وتبادل بعض العبارات مع المتسوقين الآخرين.

ولكن، انتشار التكنولوجيا الرقمية ودخول الذكاء الاصطناعي على الخط سرق منهم آخر متعة بقيت لهم. لم يعد هناك باعة، جرى استبدالهم بآلات باردة لا تتبادل الحديث معهم. ولم يعد هناك متسوقون، الناس يفضلون التسوق عبر الإنترنت.

لم أكن أتخيل أن يأتي يوم لا أجد فيه من يبادلني الحديث والابتسامات. والسبب التكنولوجيا، الهواتف الذكية بالتحديد، حيث يندر أن تجد من يرفع رأسه عن هاتفه “الذكي” في المقاهي أو وسائل النقل. الجميع مشغول يحدق بشاشة هاتفه، غير عابئ بما يجري من حوله.

هناك من يقول إن التكنولوجيا قربت البشر، تستطيع في أي وقت الاتصال بأحبابك وأصدقائك، تتبادل معهم الحديث، بالصوت والصورة، مهما بعدت بينكم المسافات.

ولكن هل هذا مقنع؟ وحتى لو كان مقنعا للغالبية التي ولدت وكبرت في عصر الإنترنت، فإنه غير كاف لأمثالي الذين ولدوا قبل التكنولوجيا وقبل الإنترنت.

لم تعوضني “سيري” و”بينغ” وعشرات المساعدات الذكية الأخرى عن متعة الحديث إلى البشر، أراقب لون أعينهم ولباسهم وأشم العطر الذي يستخدمونه، أو رائحة العرق التي تفوح من أجسادهم في يوم حار مشمس.

مشكلة المساعدين والمساعدات الصوتية، أن من صممهم ارتكب خطأ كبيرا، لأنه قام بتدريبهم على المبالغة في التهذيب، فهم لا يغضبون ولا ينفعلون، يذكرونني إلى حد بعيد برجال البوليس في إنجلترا، الذين يخاطبونك بتهذيب حتى عندما يلقون القبض عليك.

لو كان لدي متسع من الوقت والجلد على تعلم التكنولوجيا الجديدة، كنت سأعمل جاهدا على تصميم مساعد صوتي أو مساعدة صوتية كلوشار، تعرف كيف تدافع عن نفسها، وإذا أغضبها أحدهم توجهت إليه بكيل من السباب والشتائم، وإن كان بالإمكان تبصق في وجه من أغضبها.

هل تتذكرون المشهد في فيلم تيتانيك، الذي جمع بين ليوناردو دي كابريو وكيت وينسلت على طرف السفينة، وراح ليوناردو يعلمها كيف تبصق مثل الرعاع؟ أعتقد أنه أكثر مشهد بقي عالقا في ذاكرتكم منذ 25 عاما.

قريبا سيختفي الناس الحقيقيون من حياتنا، لن نلقي على عامل النظافة التحية عندما نمر إلى جانبه صباحا، سيستبدل بروبوت، ولن نحيي سائق الحافلة التي اعتدنا أن نستقلها للوصول إلى عملنا، لقد حلت مكانه حافلة ذاتية القيادة، ولن يحمل إلينا ساعي البريد رسائلنا، الرسائل التي نستلمها تصلنا عبر البريد الإلكتروني.

حتى النادل في المقهى والبار ستحل محله روبوتات، يجتهد مصنعوها على أن تأتي بملامح قريبة من ملامح البشر.

كانوا يقولون لنا إن الجنة من دون ناس ما بتنداس (أي لا تصلح للسكن). هذا المثل كان صحيحا في الماضي، وهو صحيح اليوم، وسيكون صحيحا في المستقبل، الشيء الوحيد أن تستبدل كلمة ناس بكلمة روبوت، فيصبح: الجنة من دون روبوتات ما بتنداس.

18