الجزائر ليست مقبرة فقط

“يقضون حياتهم في فرنسا، هناك يمضون شبابهم، وهناك ينفقون أموالهم، ولما يشعرون بدنو أجلهم يبصمون بوصايا الدفن في الجزائر.. الجزائر ليست مقبرة، لا يصلح ترابها إلا لاحتضان الموتى،” لا أزال أتذكر هذه العبارة من زمن كورونا، لما كانت طائرات الخطوط الجوية تحمل يوميا جثامين الموتى.
قالها لي عامل المطار وهو حالة متقدمة من الغضب والقلق، فرغم أن مهمته هي سياقة رافعة البضائع القادمة، ونادرا ما يكون ضمنها جثامين الموتى، لكن كورونا آنذاك جعلته يتعامل يوميا مع الجثامين والخوف من العدوى، فكاد المسكين أن يفقد عقله.
الحديث هنا ليس عودة إلى سنوات الجائحة، ولا إلى الجثامين في حد ذاتها، لكن عن سؤال حول تفضيل المغتربين أن يُدفنوا في أرض أجدادهم، بينما في ذروة عطائهم لم يقدموا شيئا لتلك الأرض، أم أنهم حرموا حتى من العطاء لوطنهم، إلى درجة أنه لم يبق لهم إلا أمنية واحدة وهي الحصول على قبر فيها، وكأن المقبرة هي التي تعوضهم سنوات الحرمان ومرارة الغربة.
ليس من السهل إداريا ولا ماليا على العائلات الجزائرية، سواء كانت على أرضها أو على أراضي المهجر أن تستقبل ميتا أو تنقله، لكن العلاقة السحرية بين الفرد وأرضه تجعل كل شيء يهون من أجل تلبية وصية، أو دفن جثمان، وكأن الأرض التي أعطاها كل شيء من صحته وعمره وشبابه، لا تعطيه قبرا يدفن فيه في نهاية المطاف.
في دار الدنيا يمكن قراءة قصص القطيعة بين الأحياء وبين الأرض، فهناك الكثير من الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تجعل مرارة الغربة أسهل ابتلاعا من ظلم ذوي القربى والوطن، لكن من الذي يمكن أن يتوقع سر ذلك التطبيع الذي يحدث بين الجثمان وبين جوف الأرض بمجرد صعود الروح إلى بارئها.
هناك في عالم الغيب تسوى كل الخلافات، ويعود الحنان على ما يبدو بين الابن الضال وبين التراب الذي خرج على أديمه إلى عالم الأحياء، لكن لماذا يتأخر ذلك إلى أن يحين الموت، بينما في ساعة الحياة كل طرف يستعدي الآخر، ثم ما الذي يضيفه تراب الأصل إلى جثمان سيتحلل بعد أسابيع، أليس التراب هو نفسه في مشارق الأرض أو مغاربها.
في موارثينا الثقافية والروحية، عداء غير مفهوم للحياة التي خلق الإنسان لأن يعيشها، يخلّف فيها المال والبنون، ويعمر الأرض بالخير والأمان، فالكثير يحبذ أو هو على استعداد دائم للموت، خاصة إذا كان في سبيل الله، لكن قلما نجد من هو محب أو مستعد للحياة في سبيل الله.
بالمنظور الفلسفي المتضارب للموت، هو فعل بسيط وسهل بالأجل الطبيعي أو وضع حد للحياة، فتكفي حركة أو سلوك أو تصرف أن يجعل صاحبه في عداد الموتى، لكن الحياة شيء صعب ومعقد، وممارستها بشكل بناء ومفيد للإنسان والإنسانية تتطلب جهدا وصبرا وتضحية، ولذلك تصعب في مجتمعاتنا ممارسة الحياة من أجل الرسالة التي أوجدت لها، ولا يبقى إلا الدفن في أرض المولد، كتسوية ناعمة لكل مشاكل وخلافات الحياة.
ويبدو أن لصديقنا مفهوما آخر لعلاقة الجثمان بقبره، فبعيدا عن تعامله شبه اليومي مع الجثامين كبضاعة تحملها الرافعات وتدفع حقوقها المالية بالميزان، فإن الرجل يبحث عن علاقة مادية وبراغماتية بين الطرفين، فما فائدة أرض المولد من احتضان جثمان ابنها، إذا كان قد أبلى وأفنى حياته من أجل أرض المهجر.
عادة ما يخيم الصمت والرهبة على المقابر، فهي في النهاية كتلة من الحسرة والذكريات، لا يمكن أن تقدم شيئا للحياة الآدمية حتى ولو زينت بالنباتات والورود، ولهذا يبدو أن صديقنا لا يريد للجزائر أن تكون مقبرة، ما دامت الحياة ممكنة على أرضها.