الجزائر: تنازلات الأمس، مكاسب اليوم

ما كان يوصف بالإذعان أو الخضوع لمطالب ثقافية ولغوية -أو ما كان يوصف أيضا بشعبوية السلطة في التعاطي مع صوت الشارع الجزائري- يمكن الآن تصنيفه في خانة الجرأة السياسية في التفاعل مع نبض الجزائريين.
الاثنين 2025/01/13
الاحتفالات فرصة لتطبيع الجزائريين مع أنفسهم

تحتفي الجزائر في مختلف ربوعها بعيد العام الأمازيغي للعام السابع على التوالي، بعدما تمت دسترته كيوم وطني، وشيئًا فشيئًا يسير لأن يصبح عيدًا وطنيًا وشعبيًا يجتمع فيه الجزائريون على جملة من مظاهر البهجة والسرور التي ترسم وحدة المجتمع وتماسكه، ليتكرس بذلك أن ما كان في الماضي مصدرًا للخلاف السياسي والأيديولوجي واعتقادًا بتنازل السلطة لصالح الأقلية، صار اليوم مكسبًا يعزز الوحدة الوطنية ويسد عنها ثغرة إستراتيجية في مناخ جيوسياسي متقلب يخيم على المنطقة والعالم.

يسير الجزائريون إلى التطبيع مع أنفسهم، في واحدة من أعقد القضايا التي ظلت مصدر خلاف سياسي وأيديولوجي منذ خمسينات القرن الماضي، واتخذت بعدًا عنيفًا في مطلع ثمانينات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، ويتعلق الأمر بالهوية الأمازيغية كمكون أساسي في البعد الثقافي والروحي، حيث يسجل تراجع لافت للجدل المتجدد حول احتفالات رأس السنة الأمازيغية، ولأول مرة تجري في ظروف هادئة سواء في الواقع أو المواقع الافتراضية بعيدًا عن الشحن الهوياتي.

◄ سكان القبائل ليسوا نسيجًا اجتماعيًا وثقافيًا مستجدًا في المنطقة، فهم أعرق من أي مكون آخر في البلاد، ولذلك راهنت عليهم مخابر الاستعمار الفرنسي لصناعة شرخ غير قابل للالتئام في جسد المجتمع

ويشق العيد الأمازيغي المصادف للثاني عشر من شهر يناير طريقه إلى التموقع إلى جانب الأعياد الوطنية والدينية التي تحتفل بها البلاد، وتخصها الحكومة بيوم مدفوع الأجر لفائدة الطبقة العاملة، الأمر الذي جعله تتويجًا لنضالات طويلة خاضها أنصار الهوية الأمازيغية منذ ما يعود إلى ما قبل ثورة التحرير 1954، وأفضت إلى افتكاك العديد من المكاسب الثقافية واللغوية، بعدما ظلت السلطات المتعاقبة تعتبر ذلك نوعًا من التنازل لصالح أقلية معينة، وعمدت إلى استعمال العنف والقمع ضد وعائها الاجتماعي، بدعوى تهديد الاستقرار السياسي والتماسك الاجتماعي.

الآن، وبعد ست سنوات من ترسيم رأس السنة الأمازيغية عيدا وطنيا يحتفى به في جميع ربوع البلاد وتخصه السلطة باحتفالات رسمية وأخرى شعبية، ثبت أن ما كان خلال عقود مضت تنازلًا من السلطة عن كبرياء الأغلبية، ومصدرًا لتهديد الوحدة والهوية الوطنية، هو الآن مصدر توافق لدى الجزائريين على هويتهم المركبة، ومناسبة تشترك فيها جميع المكونات الإثنية والعرقية، لأن مخيالهم يحتفظ بطقوس شعبية واجتماعية معينة بيوم “الناير”، وأن المسألة ليست حِكرًا على جهة أو منطقة سكانية بعينها.

وما كان يوصف بالإذعان أو الخضوع لمطالب ثقافية ولغوية -أو ما كان يوصف أيضا بشعبوية السلطة في التعاطي مع صوت الشارع الجزائري في أي من الربوع- يمكن الآن تصنيفه في خانة الجرأة السياسية في التفاعل مع نبض الجزائريين، ولو لم تكن تلك الخطوة لكان السؤال الآن يطرح بحدة أكثر حول القمع على الهوية، ويجري استغلاله لأغراض مختلفة.

لا يختلف اثنان في أن منطقة القبائل هي قاطرة النضال من أجل الهوية الأمازيغية، ولذلك فهي تحت عيون الصديق والعدو دائمًا، رغم أن المكاسب المحققة يستفيد منها باقي الأمازيغ في ربوع الشاوية وأقصى الجنوب وبني ميزاب، والآن هي مستهدفة بمشروع انفصالي مدفوع من قوى معادية وينفذ بأيادٍ داخلية، لكن على ما يبدو المشروع المذكور وصل متأخرًا، لأن الفتائل القابلة للاشتعال يجري إخمادها تباعًا.

داعمو انفصال القبائل ما عادوا يخفون هويتهم ودورهم، في خطوة تنتهك شرف وتقاليد العلاقات الدولية واحترام سيادة الآخرين، ولذلك يجري تمديد طيف الانفصال تدريجيًا في المنطقة، إلى درجة أن تجرأ حكام مالي الجدد في تسوية خلافاتهم مع الجزائر على طرح الملف من زاوية توحي بأن الفكرة بنت آذانهم وليس أذهانهم، ولذلك طرحت بشكل بعيد عن الحقيقة، لاسيما وأن أزمة القبائل المزعومة لا تتواجد إلا في خيالهم أو خيال من أملى عليهم محتوى البيان (البيان الصادر عن وزارة الخارجية).

◄ الجزائريون يسيرون إلى التطبيع مع أنفسهم في واحدة من أعقد القضايا التي ظلت مصدر خلاف سياسي وأيديولوجي منذ خمسينات القرن الماضي واتخذت بعدًا عنيفًا في مطلع ثمانينات القرن الماضي وبداية الألفية

وعلى منوال احتفالات رأس السنة الأمازيغية، التي كانت إلى وقت قريب تنازلًا مخجلًا من السلطة لصالح أقلية معينة، يستوجب التعاطي مع مطالب الشارع المشروعة سواء كانت ثقافية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، بعدما ثبت أن الجدار الوطني هو السلاح الوحيد الذي تواجه به الدولة كل مشروعات التفكيك والتمزيق، وما هو الآن ذريعة لممارسة مختلف أشكال الضغوط والمناورات، يمكن أن يصبح غدًا إسمنتًا يدعم مفاصل الدولة.

مسألة الهوية الأمازيغية ليست وليدة اليوم في الجزائر، وسكان القبائل ليسوا نسيجًا اجتماعيًا وثقافيًا مستجدًا في المنطقة، فهم أعرق من أي مكون آخر في البلاد، ولذلك راهنت عليهم مخابر الاستعمار الفرنسي لصناعة شرخ غير قابل للالتئام في جسد المجتمع، وحتى سلطات الاستقلال المتعاقبة لم تتعامل معهم بليونة مطلوبة، لكن النضالات المستمرة والتضحيات الجسيمة استطاعت أن تفتك مطالبهم، وتؤكد للمشككين أن مناضليهم هم الوعاء الأول والحقيقي من أجل الوحدة الوطنية.

موجة التفكيك يمكن أن تكون موضة العالم الجديدة، والجزائر لا يمكن أن تكون بمعزل عن رياحها القادمة، وما صنعته خطوة التطبيع الذاتي مع المكون الأمازيغي يحتاج إلى خطوات أخرى في مختلف المجالات، لأن الشروخ القائمة لا يمكن سدها إلا بتطبيع ومصالحة شاملة مع جميع الأطياف، وحينها فقط لا يجد عرابو التفكيك والانفصال أي مشجب يعلقون عليه ذرائعهم.

التنطع يصنع التنطع والتطرف يجلب التطرف، وبهذا المنطق تضيع أوطان على مرأى ومسمع من الجميع، والنضال من أجل الوحدة الوطنية هو كالقبض على الجمر في هذا المناخ الجيوسياسي المتقلب الذي يسود العالم، ولذلك فإن ما كان يعتقد تنازلات وإذعانًا للضغوط، هو في الواقع جرأة على تحقيق المكاسب الضرورية، ما دام يحقق جبرًا للخواطر أو تهدئة للنفوس القلقة، وهنا فقط يمكن للاختلاف الطبيعي أن يكون أمة قوية.

9