الجزائر التي تنتظرها فلسطين

يتذكر المخضرمون في الجزائر والعالم العربي، أنه لما أعلن الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر “التنحي عن السلطة وعن أي منصب رسمي والانضمام إلى الجماهير” في أعقاب هزيمة يونيو – حزيران 1967، كان الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، يصدح في خطاب رسمي “الجزائر لا تقبل الهزيمة”.
المناخ السائد حينها كان قوميا بامتياز، على ما فيه من فانتازيا واستعراض خادع، لكن تحليل المقطعين يفضي إلى استنتاج الخلفية والمدرسة التي تخرج منها كلا الرجلين، فلما شعر عبدالناصر بثقل المسؤولية وبخيبة الشارع المصري والعربي، ولم يبق له إلا رمي المنديل، كان بومدين يستلهم الدروس من تجربة ثورة بلاده ومن عقيدتها التي لا تؤمن إلا بالنصر.
تخوض الدبلوماسية الجزائرية مساعيها في نطاق الممكن، وتبذل جهود التضامن الشعبي والرسمي، فخرج الناس إلى الشوارع وسيرت المساعدات المادية والإنسانية إلى العريش، على أمل أن تصل إلى قطاع غزة، وفتح المجتمع المدني قنوات جمع المساعدات، وما عدا ذلك فالعين بصيرة واليد قصيرة.
◙ "الجزائر الرسالة"، هي التي تنتظرها غزة وتنتظرها فلسطين، وينتظرها أصحاب القضايا العادلة في العالم، وكم كان تبون أن يعظم في عيون خصومه قبل أنصاره لو استجاب لهؤلاء
ما قبل السابع من أكتوبر وما بعده ليس نفسه، لا في فلسطين ولا في المنطقة، ولا حتى في العالم، فالحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، تجاوزت حدود حرب الدولة على تنظيم إرهابي، وأثبتت أن جهود دمج تل أبيب في المنطقة لم تصل إلى مستوى المأمول، فآلة الدمار وقتل المدنيين قطعت الطريق على أي تقارب في الأفق.
سيبقى الخلاف قائما حول تصنيف حماس، وحول ما قامت به في السابع من أكتوبر، بين سلوك إرهابي أو عمل مقاوم، لكن رد الفعل كان من جنس الفعل، ولأنه صادر عن دولة تحظى بـ”دلال” الأميركان والأوروبيين، فإنه يصبح محل رفض إنساني قبل أن يكون قوميا، أو أيديولوجيا.
الوضع يتجاوز التضامن والخطب الرنانة، سواء كان جزائريا أو غير جزائري، فالحرب الإسرائيلية تلامس أسبوعها الرابع، ولم تفتك الجزائر ولا المجموعة الدولية حتى هدنة إنسانية ولا فتحا مؤقتا لمعبر رفح، لأن إسرائيل والقوى الداعمة لها في أميركا وأوروبا ترفض ذلك إلى غاية تحقيق أجندة الخراب والدمار والتقتيل.
ولم يعد أهل غزة ولا الفلسطينيون ولا حاملو قيم الإنسانية، مستعدين لمقايضة المساعدات والتضامن بوقف إطلاق النار، فأمام آلة القتل والدمار، تسقط الواجهة الموحدة للصحف والبث المشترك للقنوات، وتسيير مساعدات غير متأكد من وصولها إلى أصحابها، أو الانسحاب من جلسة محفل دولي، أو التحفظ على هذا البيان أو ذلك، أو إلغاء هذه التظاهرة أو تلك، لأن الفلسطينيين لهم انتظارات أكبر، ومن الجزائر تحديدا.
“نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، شعار اختصر المبدأ والعقيدة الجزائرية، لكن هل صمد أمام الفقد التدريجي لمفاتيح المتاهة، لأن الجزائر التي أوفدت وحدات جيشها في حروب العرب ضد إسرائيل في 1967 و1973، ودفعت شيكا على بياض للسوفييت من أجل ألا يتخلفوا في التموين بالسلاح والذخيرة، ليست هي الجزائر التي دمرتها العشرية الدموية وكبلتها الانحرافات السياسية، ولذلك لم تعرف دورها ومكانتها في قضية ذهبت حصرا لأطراف أخرى في المنطقة.
عندما راسلت مجموعة شخصيات عالمية، ومنهم المفكر نعوم تشومسكي، الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، من أجل إطلاق سراح الإعلامي إحسان القاضي من السجن، جاء في أحد مقاطعها: “الجزائر ليست بلدا عاديا.. الجزائر رسالة ومعنى ومغزى”، وهذا يختصر النظرة والرسالة اللتين تحملهما نخب عالمية عن هذا البلد الذي لقن قيم النضال والحرية للعالم.
“الجزائر الرسالة”، هي التي تنتظرها غزة وتنتظرها فلسطين، وينتظرها أصحاب القضايا العادلة في العالم، وكم كان لعبدالمجيد تبون أن يعظم في عيون خصومه قبل أنصاره، وفي عيون قاصديه قبل منتظريه، لو استجاب لهؤلاء، ويقيم عليهم الآن الحجة ليصدحوا بأصواتهم نصرة لسكان غزة، ويلزمهم بأن النضال والحرية كل لا يتجزأ، سواء تعلق بسجين سياسي بالجزائر، أو بشعب مضطهد في فلسطين.
◙ ما قبل السابع من أكتوبر وما بعده ليس نفسه، لا في فلسطين ولا في المنطقة، ولا حتى في العالم، فالحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، تجاوزت حدود حرب الدولة على تنظيم إرهابي
للجزائر ذريعة التراجع عن عقيدتها، فثلاثة عقود من الحرب الأهلية والانحراف السياسي كافية لأي انهيار لولا إرادة الخيرين، لكن بعد هذا ليس لها مبرر للتخلف عن رسالتها التي لا يزال يؤمن بها كبار المفكرين والأكاديميين في العالم، وهي أكبر بكثير من أن ترفض مثلا منح تأشيرة لواحد من هؤلاء لزيارة أراضيها، كما حدث مع الكاتبة الفرنسية الحائزة على جائزة نوبل للسلام آني أورنو، بمناسبة الدورة الـ26 للصالون الدولي للكتاب.
الجزائر التي عظمت في عيون أنصار الحرية والنضال في العالم، هي التي بلورت مدرسة في تلقين القيم الإنسانية كاملة غير مجزأة، وهي “مكة الأحرار”، برسالتها الملهمة بما تحمله من مواقف ثابتة وصوت صادح وفعل حاسم، وليست تلك المرتبكة التي تتمنى الأشياء ولا تقدر على تحقيقها، لا لنفسها ولا لأصحاب القضايا العادلة في فلسطين.. وفي غيرها.
فجبهة التحرير بعبقرية شبابها، آمنت بقضيتها ولم تؤمن إلا بجزائر بـ”تاءاتها الأربع” غير منقوصة، من تبسة في أقصى الشرق إلى تلمسان في أقصى الغرب، ومن تيزي وزو في أقصى الشمال إلى تمنراست في أقصى الجنوب، وبأن حرب التحرير هي الصف الواحد والصوت الواحد والموقف الواحد، والبذل بلا حدود، وما عدا ذلك فهي معارك مقاومة جربت منها الكثير، لكنها فشلت في نهاية المطاف لأنها لم تكن تشمل أو تعم كل الوطن الواحد والشعب الواحد، وارتبطت بقطاعات ومناطق وقبائل فقط.. هذه هي جزائر الرسالة التي تنتظرها فلسطين، وما عدا ذلك أضغاث أحلام فقط.