الجدران الاجتماعية

لا بد أن تنتقل الصحراء الحدودية من مفهوم التيهان والموت عطشا والفقر والتهريب، إلى نسيج اجتماعي واقتصادي وتجاري، يحمي مصالحه قبل أن يحمي الحدود نفسها.
الثلاثاء 2025/01/28
أمام حتمية مواكبة المفاهيم المستجدة للحدود الجغرافية

أبانت رسالة أمين عقال طاسيلي (أمنوكال) بكري غومة بن براهيم، إلى سكان المنطقة، وإلى عموم الأهقار في المنطقة، بمناسبة اختطاف وتحرير الرعية الإسباني جيلبيرت خواكيم، خلال الأسبوعين الأخيرين، عن وعي اجتماعي وسياسي راق، يضع مفهوما آخر للحدود الجغرافية.

وإذا كانت حماية الأوطان تبدأ من وراء الحدود، فإن الحدود نفسها هي مسألة مقدسة في العقيدة، لأن سيادة الشعوب والمجتمعات تبدأ من هناك، ولذلك تتشكل مفاهيم متعددة في العلاقات الدولية والإستراتيجية، فإذا كانت العيون لا تنام لأجلها من طرف الجيوش، وتسخر لها الترسانات العسكرية واللوجستية لحمايتها في بعض الأنظمة السياسية، فإن تنميتها وتحقيق نهضة سكانها هي إستراتيجية أنظمة أخرى، تعتبر أن الجيوش والسلاح غير كافيين لوحدهما لحراستها، بل لا بد من إشراك الفئات الاجتماعية الأخرى في تأمينها، بوضع مصالحها في طليعة الاهتمام.

الجزائر بطابعها الجغرافي المميز، واشتراكها في نحو ستة آلاف كلم من الحدود البرية مع دول الجوار، يجعلها أمام حتمية مواكبة المفاهيم المستجدة للحدود الجغرافية، لأن ما حدث مع الرعية الإسباني يوحي بأن المسألة الأمنية وحماية السيادة الوطنية، مسألة منهكة ومضنية للمؤسسات الأمنية والعسكرية، ولذلك لا بد من إشراك كل أطياف المجتمع في حمايتها وتأمينها.

منذ سنوات تصاعدت أصوات تدعو إلى تمدين المناطق الحدودية، وخلق بيئة اجتماعية واقتصادية للسكان المحليين من أجل أن يساهموا في حماية وتأمين الحدود، عبر الدفاع عن مصالحهم وممتلكاتهم، ليكونوا بذلك مساعدين ورفقاء للمؤسسات الرسمية الأخرى في المهمة المذكورة.

حين يضع المتابع الخارطة الجغرافية للجزائر أمامه، حينها يدرك أن الموقع الجغرافي الإستراتيجي ليس مجرد شعار سياسي يردد في الخطب لإبراز مواطن الأهمية والقوة، بل هو مزية لها ضريبتها وثمنها، فتأمين ستة آلاف كلم من الحدود البرية ليس بالأمر الهين، لأنه يتطلب إمكانيات ضخمة وجهودا مضنية.

بقدر ما بإمكان تلك الحدود أن تكون مصدر انفتاح وتنمية وتعاون ومصالح مشتركة، إذا تم استغلالها بالشكل اللازم وفي إطارها الطبيعي، بقدر ما بإمكانها أن تكون مصدر قلق وخوف على السلامة والسيادة الإقليمية الجغرافية، خاصة إذا كانت الظروف المحيطة تسير بعكس وجهة الرياح.

مدينة تمنراست في أقصى جنوب البلاد، هي أقرب إلى 15 عاصمة أفريقية من قربها عن العاصمة الجزائر، وهذا معطى يبدو أنه لا يزال مغيبا عن متخذ القرار الإستراتيجي في الجزائر، لأن قليلا من البداهة وليس الذكاء يرشح تمنراست لأن تكون العاصمة الفعلية والإستراتيجية للجزائر، لأن الاهتمام بها وتنميتها وترقيتها هو الذي يجعلها بوابة حقيقية للقارة السمراء، وحامية ناعمة للأمن في الحدود الجنوبية.

المدينة المذكورة يمكن أن تكون عاصمة أفريقية بامتياز، وليس عاصمة مرَتّبة في الجزائر فقط، لأن موقعها يجعلها على احتكاك وحركة وتواصل دائم مع 15 عاصمة أفريقية، وهذا كاف لأن يؤفرق الجزائر بشكل ناعم، ويجعل الحدود في أمن دائم، لأن الحدود لا تحمى بالجيوش والسلاح فقط، بل تحمى أيضا بالتبادل والتنمية الاقتصادية والتجارية والاستقرار الاجتماعي، لأنه حينها سيكون السكان أمام حتمية حماية مصالحهم قبل حماية الحدود.

ولهذا فإن رسالة أمين عقال الطاسيلي، إلى طوارق الجزائر وعموم الطوارق في المنطقة، تنم عن وعي كبير بالمسؤولية، لكنه لن يكون لها مفعول ولا دعم، إذا لم يأخذ صاحب القرار بيده ويعيد تشكل الحدود الجغرافية وفق المفاهيم المتعددة، فيتجه الاهتمام إلى تنمية المناطق الحدودية وتمدينها وتشجيع النشاط الاقتصادي والتجاري بينها، بالموازاة مع حشد الإمكانيات العسكرية واللوجستية لحماية الحدود من المخاطر المحدقة.

لا بد أن تنتقل الصحراء الحدودية من مفهوم التيهان والموت عطشا والفقر والتخلف والتهريب والأمية، إلى نسيج اجتماعي واقتصادي وتجاري، يحمي مصالحه قبل أن يحمي الحدود نفسها.

18