الثقب الحضاري الأسود

لماذا لا نستعير من علوم الفلك ما يمكّننا من فهم الحياة والظواهر من حولنا؟
الجمعة 2022/01/21
أين تذهب الحضارات والقيم والأخلاقيات التي يبتلعها الثقب الأسود؟

لماذا لا نستعير من علوم الفلك ما يمكّننا من فهم الحياة والظواهر من حولنا؟ بعد انتشار تلك المفاهيم والمصطلحات عبر الميديا والسينما والمجلات وأفلام الكرتون، صار استعمالها والاتكاء عليها لشرح فكرة أهون بكثير من الطريق المباشرة.

وهكذا يمكننا أن نشير إلى وجود ثقب أسود في الحضارة الحالية التي لا يعلم بوجهها ووجهتها إلا الله، يبتلع الحضارات والثقافات، كما يفعل الثقب الأسود في الفضاء الخارجي.

وبما أن الأمر كذلك، فالأجدر أن نسأل السؤال الأصعب؛ أين تذهب الحضارات والقيم والأخلاقيات التي يبتلعها ذلك الثقب الأسود؟ هل تزول إلى الأبد؟ هل تجدي محاولات من يعملون على مواجهة ذلك الاندثار الكبير الذي تتعرض له ثقافاتهم؟

وعلى سيرة الثقب، كان خالد نديم خديجة، شخصية شهيرة في دمشق يتذكرها من عاشوا في المدينة ودرسوا في كلياتها، وكان الناس يظنون أنه مهفوف العقل، لأنه بشّر بحماسة لنظرية جديدة يجدر أن نستعيدها الآن في زمن الثقب الحضاري الأسود، وكان الرجل فوق ذلك، أكبر من أن يحمل لقباً عادياً، بل اختار لنفسه أعلى ما يمكن من الألقاب، فكان يطلب من الناس أن تناديه ”أبوالقائد“. وكانت نظريته تسمى “نظرية الثقب العالمي”.

الأجيال كانت تضحك على تأصيل أبي القائد الفلسفي لنظريته تلك، وتوزيعه للمنشورات في جامعة دمشق وإلقائه للخطب في الشوارع والحدائق محذّراً من مخاطر الثقب.

دفعني الفضول آنذاك لملاحقة أبي القائد، والبحث في شخصيته، واتضح أنه يعيش في بيت متآكل في العشوائيات حوّله إلى ورشة عجيبة.

بعد أن اطمأن إليّ، عرّفني على عالمه الداخلي، وإذا به قد حصّل بعض الأموال من هنا وهناك، واشترى مطبعة بدائية صغيرة لم تكن هي بطل القصة، بل العمالة التي كان يعتمد عليها أبوالقائد، وهي حفنة من المساجين السابقين، ليس في قضايا سياسية أو خلافه، بل حرامية ملابس وطناجر وخضروات بسطاء، أمّن لهم فرصة عمل معه، وكانت مهمتهم طباعة كتيبات صغيرة كتبها أبوالقائد عن نظرية الثقب العالمي مقابل بعض السجائر والقروش القليلة، ثم توزيعها بالمجان في سبيل الحقيقة.

اليوم، بعد أكثر من ثلاثين سنة، لا أعرف ماذا حلّ بأبي القائد. ولا أعلم إن كان حياً أم ميتاً؟ لكنّني عثرت في الشبكة العنكبوتية أخيراً على كتابين له، أولهما بعنوان مبهر؛ “سيّد الحركة”، والثاني لم يكن غريباً أن يكون عنوانه “ثاقب الأشياء”

سأعود لقراءة ما كتبه أحد أبطال ذلك الزمان، فقد يكون أصدق من نبيّ كوميدي تروّج له، هذه الأيام، وسائل التواصل الاجتماعي والمحطات التلفزيونية التي تجرف الكل نحو الثقب الحضاري الأسود إياه.

20