الثقافة المصرية تلجأ إلى النوستالجيا لتحفيز المبدعين

استعادة الدول العربية للماضي وتثمين رواده المؤثرين أمر بالغ الأهمية اليوم لتجاوز حالة الإحباط والبناء على زمن كان ينبئ بنهضة شاملة قادها مثقفون تنويريون، لكنها سرعان ما خبت وتراجعت، ولكن استعادة الماضي تحتاج إلى تفكير عميق وطرح مختلف.
القاهرة - أولت وزارة الثقافة المصرية اهتماما برواد العشرينات من القرن الماضي في مجالات ثقافية وفنية مختلفة، ودشنت فعاليات مختلفة أخيرا للاحتفاء بعدد من الرموز الذين بزغوا في تلك المرحلة، وأوحت بحالة من الحنين إلى الماضي (النوستالجيا)، بغرض تحفيز المبدعين وتسليط الضوء على شخصيات لم تأخذ حظها من الدراسة.
وانتقلت الفعاليات من التركيز على مجالات الشعر والأدب والفنون إلى التطورات التي شهدها المعمار المصري لكي تؤكد الحكومة أنها عازمة على توسيع مروحتها الثقافية.
هروب من الواقع

حلمي النمنم: اختيار تلك المرحلة يوحي بأن مصر مازالت تعيش أصداءها
افتتحت وزيرة الثقافة إيناس عبدالدايم معرض “المعماريون الرواد في عشرينات القرن الماضي” ليلقي الضوء على تطور الأنماط الهندسية في العمارة المصرية، وعرض مجموعة من أعمال رواد العمارة، مثل صابر باشا صبري، ومحمود باشا فهمي، ومصطفي باشا فهمي وفرج أمين، ممن تركوا بصمات خالدة في هذا الفن.
ويستهدف استمرار الفعاليات منذ مطلع شهر يونيو الجاري العودة إلى النجاحات التي حققتها الرموز الثقافية المصرية التي شكلت قوة ناعمة أسهمت في إحداث نهضة حضارية لافتة عقب اندلاع ثورة 1919، وهو أمر دائما ما يتكرر في مناسبات مصرية عديدة يجري فيها الاهتمام بنماذج صنعت قوة معنوية للدولة، في محاولة لتشجيع المبدعين في الوقت الحاضر على مزيد من الإنجاز والإبداع.
ويعبر الاستغراق في الاهتمام بالماضي عن أزمة في الواقع الحالي، حيث يشير إلى حالة من الفراغ التي يغيب فيها الإنجاز والسعي لتوظيف الماضي لرفع معنويات الشباب وتذكيرهم بما كان عليه أجدادهم، إذ تحدث النوستالجيا حالة من الانتشاء وتعيد التذكير بقوة الدولة الناعمة التي من المهم استعادتها للصمود أمام الأزمات الحالية.
ويكشف الحنين إلى الماضي عن هروب من الواقع الحالي أكثر منه تشجيع على أن يحذو الشباب حذو سابقيهم، خاصة أن الأجواء العامة الحالية لا تتوافق مع ما كان سائدا، والذي سطع نجمه في خضم حالة نادرة من التكوين الثقافي النابع من تراكمات.
وقالت وزيرة الثقافة المصرية إن استلهام التجارب الإبداعية السابقة يعمل على تحقيق إنجازات راهنة ومستقبلية بمشاركة العديد من القامات الوطنية في مجالات متعددة.
ولفتت إلى حرص وزارة الثقافة على تنفيذ المقترحات والتوصيات المقدمة منهم، وحثت المثقفين على مشاركة الوزارة في أداء الدور التنويري والتواجد في الأنشطة التي تجوب المحافظات ونشر الابداع للتقليل من حالة الاغتراب الثقافي لدى الشباب.
ويتفق مثقفون على أن الأبعاد السياسية حاضرة في تحركات وزارة الثقافة، فالدولة تعاني من أزمة في النخب القادرة على توصيل رسائل النظام الحاكم في مجالات متباينة ومساعدتها في تحقيق أهدافها، وتحاول بشتى الطرق التعامل للخروج من حالة الخمول التي أصابت الجماعة الثقافية بسبب القيود المفروضة على المجال العام والإبداع بشكل عام، فبدون حريات لن يكون هناك إبداع ثقافي.
نهضة شاملة

يؤكد وزير الثقافة السابق حلمي النمنم لـ”العرب” أن الاهتمام برواد العشرينات من القرن الماضي ينبثق من أن تلك المرحلة قادت مباشرة إلى حصول الدولة المصرية على استقلال شبه كامل عن الاحتلالين العثماني والبريطاني، وأن ثورة 1919 مهدت لإنهاء الحماية البريطانية وكانت مقدمة لوضع دستور جديد.
ويضيف أن هذه السنوات كانت شاهدة على نهضة فنية موسيقية قادها سيد درويش، وأخرى في فن النحت قادها المثال محمود مختار، بجانب نهضة فكرية تمثلت في أن تبقى الجامعات الحكومية مجانية مع فتح المجال أمام الطبقات الفقيرة للتعليم والتثقيف.
ويوضح أن اختيار تلك المرحلة يوحي بأن الدولة المصرية مازالت تعيش أصداءها حتى اليوم، وأن دعاوى الخلافة الإسلامية والتشكيك في الثوابت الوطنية مازالت مستمرة من جانب الجهات ذاتها.
كما أن الاهتمام بها يستهدف التأكيد على أهمية وجود شخصيات سياسية وثقافية ملهمة تقوض إمكانية اختطاف البلاد من قبل تيارات الإسلام السياسي المنظمة التي تستغل عدم وجود شخصيات ملهمة توجه الثقافة والفكر والسياسة نحو الطريق السليم.
وتقارن النخب المصرية بين ثورة 1919 التي نجحت بفعل قيادة الزعيم سعد زعلول وغيره من الرموز السياسية والثقافية في تلك المرحلة وبين ثورة يناير 2011 التي غابت عنها القيادات الحقيقية فأخفقت في الوصول إلى أهدافها، وهي المقارنة التي تؤكد الحيوية التي تقوم بها النخبة عندما تكون حاضرة في المشهد العام.
وجاء الاحتفاء المصري برواد عشرينات القرن الماضي استجابة لدعوة أطلقها الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، خصص لها عددا من مقالاته بجريدة الأهرام، وتطرق فيها إلى ضرورة التركيز على عدد من رموز التنوير في تلك المرحلة لمواجهة الأفكار المتطرفة، وشملت دعوته الكثير من الأسماء السياسية والأدبية، وتعمد عدم حصرها في النطاق الثقافي لكي تصبح الرسالة عامة وتصل إلى أجهزة الدولة التي تستطيع تقديم العون وتتشجع لإحداث نهضة جديدة.
طابع كرنفالي

يأخذ البعض من النقاد على احتفالات وزارة الثقافة تركيزها على الطابع الكرنفالي (الاحتفالي)، حيث غاب البعد التنويري العميق والاكتفاء بإعادة إنتاج رواد هذه المرحلة من دون توضيح كيفية استفادة المجتمع من الآراء والمواقف الداعمة للحريات والإبداع في هذه المرحلة، والتي حققت فيها المرأة مكاسب عديدة، وجرى تجاهل الكيفية التي أسهم بها الأدباء والمفكرون في النضال السياسي من أجل الاستقلال والديمقراطية والوحدة الوطنية والأدوار التي قاموا بها في مواجهة التعصب والطائفية.
ويؤكد النقاد أن مصر تحتاج إلى استلهام العوامل التي أدت إلى الزخم خلال هذه الفترة أكثر من احتياجها إلى التركيز على أسماء بها، فالمضمون الذي انطوت عليه هو الكفيل بتحقيق تقدم حضاري في الوقت الراهن، وهي المهمة التي تقع على عاتق وزارة الثقافة، فعليها أن تشحذ همم المبدعين لوضع روشتة عمل للمرحلة المقبلة.
وأشار الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي في دعوته للاهتمام برواد القرن العشرين إلى الدور الذي لعبته أفكار الإمام محمد عبده في تحرير الفكر الديني من قيود التقليد والتنميط، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، والنظر إلى العقل باعتباره قوة من أفضل القوى الإنسانية، بل هو أفضلها على الحقيقة.
وناقش المفكرون في ذلك الحين الفهم المغلوط لموقف الإسلام من حرية التفكير وحرية الإبداع، وأثبتوا أن التفكير فريضة، وأن الفن طريق من طرق التفكير والتعبير لا يحرمه الإسلام، وكما أن الشعر ليس حراما في الإسلام فالنحت ليس حراما، والرسم ليس حراما، لأن ما تقوله القصيدة تقوله الصورة كل منهما بلغتها.
فالماضي سلاح يجري توظيفه لتحسين أوضاع الحاضر، وهو أمر لم يتحقق لأن الجانب التنويري الذي يأتي على رأس احتياجات الدولة في مواجهة الأفكار لم يكن حاضرا بالصورة المطلوبة، ولذلك من الضروري عدم تغييب الأدب عن النقاشات.
وواجهت تحركات وزارة الثقافة انتقادات من جانب مثقفين اعتبروا الرسالة المقصودة من الفعاليات التي قدمتها مشوشة ولم توضح الأسباب والرؤى التي تدفعها للتركيز على عدد من الرواد، وإذا كانت تستهدف تحفيز مبدعي الحاضر فرسالتها لم تصل لأن غالبية الفعاليات جاءت في قاعات مكيفة ومغلقة ولم تتفاعل مباشرة مع المواطنين.
وبدت الدعوات التي وجهت للمثقفين للمشاركة في الاحتفالات بالرواد محدودة واقتصرت على بعض الأسماء القريبة من الحكومة، ولم تستعن بمثقفين تبدو مواقفهم معارضة لها، فضلا عن أنها لم تعط كافة رواد القرن العشرين الحظ نفسه من الاهتمام.
وأبرزت الندوات أدوار شخصيات دائما ما يتم الاحتفاء بها بشكل متكرر، وغاب آخرون من الرواد، فلم تهتم وزارة الثقافة بتكريم الأديب سلامة موسى والشاعر حافظ إبراهيم، وهما من رواد التنوير ولعبا دورا مهما في تمهيد الطريق لمن جاء بعدهما من المبدعين، وسواء جرى ذلك عن جهل أو عمد، فإن الأمانة تقتضي عدم الانحياز ضدهما وعدم التغافل عن دورهما الثقافي.