الثاني بعد الماء

لا أعتقد أن ليلى نظمي الفنانة خفيفة الظل التي لمعت خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي لا تزال مصرّة على شرب القازوزة بدل الشاي. فهي في الخامسة والسبعين من عمرها تدرك ما للمشروبات الغازية من أضرار صحية، مقابل ما للشاي من فوائد لصحة العقل والبدن. يكفي أن الأولى تزيد الوزن وترفع نسبة السكري، فيما يقي الثاني من الحالتين إضافة إلى أنه مضاد للالتهابات والأكسدة.
وفقا للأسطورة الصينية، فقد بدأت قصة الشاي المؤثرة في العام 2737 قبل الميلاد في عهد الإمبراطور شينونغ الذي كان خبيرا في طبّ الأعشاب ومهووسا بالنظافة، حتى أنه لا يشرب الماء إلا بعد غليه جيدا. وفي أحد الأيام كان في رحلة إلى البرّية مع أفراد أسرته، وأثناء فترة الراحة وضع مساعدوه قدرا لغلي الماء تحت إحدى الأشجار. وما إن هبّ النسيم على أغصانها حتى سقطت منها بعض الأوراق في الماء الذي كان على وشك الغليان، وعندما تذوّق الإمبراطور المزيج وجده لذيذا ومنعشا ويمنح الطاقة والنشاط.
كانت تلك الأوراق من شجر الشاي الأخضر البرّي الذي سيتحول لاحقا إلى واحد من أهم عناصر الطب الشعبي، والذي لم تظهر سجلاته رسميا حتى القرن الثالث قبل الميلاد، عندما بدأ استهلاكه في الشيوع بين الناس الذين اتجهوا إلى زراعة الشاي في بساتينهم الصغيرة وإلى ابتكار أساليب التجفيف والمعالجة.
وفي القرنين الرابع والخامس بعد الميلاد أصبح الشاي منتشرا في الصين، وتم تقديمه كتكريم للإمبراطور وبدأ بيعه في النزل والفنادق والمطاعم. وفي العام 476 بعد الميلاد تم استخدام أوراق الشاي الخضراء في كعكة بعد تبخيرها للمقايضة مع الأتراك. ويعتبر عهد سلالة تانغ المزدهرة (618 – 906 م) “العصر الذهبي” للشاي، الذي لم يعد يشرب فقط كمنشط ومهدئ وإنما يستخدم أكثر في إسعاد الجسم والعقل. ويقول الصينيون إن الاسم الأصلي للشاي كان “تي” الذي يطلق على نبتة الصفيراء، ولكن أحد أباطرة أسرة هان (206 ق.م – 220 م) أوصى بتغيير الاسم إلى “تو” للتمييز، إلى أن تحوّل إلى “شاي” في القرن الثامن للميلاد.
تحول إنتاج وإعداد الشاي إلى طقوس احتفالية معقدة تقرّها لوائح صارمة، تحدد هوية المنتقي، ووقت وطريقة الانتقاء والمعالجة لقطف الأوراق، وتفرض على العاملين في قطاع النظافة الشخصية، وتحظر عليهم تناول بعض الأطعمة كالثوم والبصل والبهارات القوية حتى لا تتسلّل روائحها من بين أصابعهم إلى أوراق النبتة التي تحولت إلى جزء مهمّ من ثقافة الصين.

إلى حد الآن نحن نتحدث عن الشاي الأخضر، قبل أن يظهر الشاي الأسود بعد أسرة سونغ التي حكمت من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر. ويقال إن ظهوره يعود إلى طول مدة التخمير خلال النقل على خط الحرير، وقد نقله الهولنديون إلى أوروبا بداية من العام 1610. وفي العام 1662 كانت علب الشاي جزءا من مهر ملك بريطانيا تشارلز الثاني لزوجته أميرة البرتغال كاثرين. ومنذ ذلك الحين تم إحضار الشاي الأسود إلى المحكمة البريطانية، وسرعان ما أصبح شرب الشاي الأسود جزءا لا غنى عنه من حياة العائلة المالكة البريطانية، ثم لينتشر في مناطق نفوذها عبر العالم.
حاليا، الشاي هو ثاني أكبر مشروب في العالم بعد الماء، وغدا 21 مايو هو اليوم العالمي للشاي الذي أقرته الأمم المتحدة وانطلق الاحتفال به في العام 2005. ويقول شو دونيو المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، إن الشاي ليس غنيا بالتاريخ والثقافة فقط، وهو أمر له فائدة كبيرة للصحة الجسدية والعقلية، ولكنه أيضا محصول اقتصادي مهم يعود بالنفع على التنمية والتنمية الريفية، فالأمن الغذائي الوطني له أهمية كبيرة.