التونسي صلاح بن عياد: كاتب الأطفال يخوض حربا شعواء مع الشاشات

يعدد الكاتب والشاعر التونسي صلاح بن عياد اهتماماته الأدبية والثقافية، ما جعله يكتب في الكثير من الأجناس لعل كتب الأطفال أبرزها، ولكنه أيضا لم يتخلّ عن كتابة الشعر والقصص وحتى عن الترجمة مقدما تجربة متنوعة. “العرب” كان لها معه هذا الحوار حول تجربته ورؤاه للمشهد الثقافي.
يتجلى في تجربة صلاح بن عياد ثراء معرفي وثقافي وإبداعي، فهو شاعر وقاص وروائي ومسرحي للطفل ومترجم كما أنه باحث في الفضاءات المتعددة للتراث الشعبي والفني التونسي، وفي جميع هذه الأجناس يقدم رؤى وأفكارا وصورا عميقة تؤكد خصوصية نسيجه ونتاجه شعرا وسردا.
وعلى الرغم من أن أعماله للطفل وترجماته تشغل حيزا كبيرا في إنتاجه، إلا أن ما قدمه شعرا يكشف عن قصيدة متوهجة الدلالات تعتمد على الصورة والإيجاز واللغة الشفيفة.
من أعمال بن عياد الشعرية: “المشرب الجامعي”، “ارتعاشات النحات” و”براق أيها العنف الكامن في السواد”، ومن مؤلفاته القصصية للأطفال: “الرقصة الأخيرة”، “عودة الورود”، “رحلة رولا” و”ريكو وريكا”. ومن رواياته: “طفوليا: كوكب الأطفال” (رواية لليافعين حاصلة على جائزة الدولة التونسية لأدب الناشئة واليافعين سنة 2022) و”دهليز القائد علي”، ومن ترجماته: “روزينها زورقي الصغير” لجوزيه ماورو، “الحياة المكثفة: هاجس الإنسان الحديث”، “جنون اليوم” لموريس بلانشو، “نيتشه والحلقة المفرغة” لبيير كلوسوفسكي، “سيدي وقاهري” لفرنسوا هنري ديزيرابل، و”الليلة الأخيرة” لإمانويل بوف، وغيرها.
تجربة متنوعة
انطلاقا من البنية المعرفية والثقافية التي أهلت تجربته لهذا التنوع يقول بن عياد “إنه الشغف ولا غير الشغف. شغف الشاعر المسكون بتفاصيل العالم. أعتقد أن الشعر وبعد أن تحرر من قيوده الشكلية حررنا معه. لذلك لم نعد مكتفين بالقصيدة. صرنا نتتبع الشعرية حيثما وجدناها. الشعرية في كل مكانٍ، إنها في التوجه للطفل بقصةٍ تذهب ببنيته الذهنية بعيدا وفي الترجمة وأنت تقتفي أثر نص تفك شفراته وفي ظاهرة شعبية تحمل محاولات الإنسان في الإنجاز ومجابهة الفناء وفي غير كل الذي سبق”.
ويضيف “على الشاعر أن يكون متنوعا لأنه يحمل أصواتا متنوعة. أصوات من لا صوت لهم كما تقول إحدى التعاريف الفرنسية لهذا لشاعر. ولأنه متنوع فإنه ينوع قراءاته وهواجسه. وما كل تلك سوى هواجس تنتمي لهذا العالم الذي أعتقد ألا أحد يحمله على كاهله اليوم كما يحمله الشاعر”.
ويكشف بن عياد تأثير ترجماته الشعرية على نصه الشعري ويقول “كانت بداياتي في الترجمة شعرية. فقد ترجمت كتابا لفيكتور هوغو وهو ‘الشرقيات’، ومن بعده نصوصا لشاعرٍ فرنسي غير معروف بالقدر الكافي وهو فرنسيس بونج. ثم دخلت غمار ترجمة الروايات وحتى الكتب الفكرية. من الطبيعي أن يكون للترجمة تأثير على نصي الشعري، لأن الترجمة نوع من القراءة العميقة والتلقي الأكثر عمقا. فهي تفتح لك أبوابا جديدة وتطعم نصك بألوان جديدةٍ. هذا إلى جانب تأثيرها على لغتك والموضوعات التي تتناولها. في الترجمة ننقل المعنى بالأساس من سياق إلى آخر. وبما أن قصيدة النثر تحاصر المعنى كهدفٍ أسمى فإن الترجمة منجم شعري ينفتح لك على مصراعيه”.
وحول كونه مقلّا في أعماله الشعرية، يوضح “لست مقلّا في كتابته لكني مقل في نشره. لعل الشعر قد أصبح اليوم شأنا روحيا بحتا مثل أي صلاة. نكتبه في خلوتنا ونحفظ نصوصنا تلك مثلما نحفظ أشياء مقدسة. عديدة هي المخطوطات الشعرية في الكمبيوتر. أعود إليها في كل مرة لأقترف بعض اللمسات. مخطوطات غير منتهية ولعلها لن تنتهي مثل لوحات فان كوخ تماما”.
ويتابع “بما أن الشعر صلاة فمن غير اللائق أن نلقي به في سوق قرائية ما عادتْ تعطي الشعر حق قدره. وبما أن الشعر صلاة فإن ردود الناشر الراضخة لقانون السوق من تلك الأشياء التي ما عدت أطيق سماعها. قد يقول لك الناشر ‘لم يعد الكتاب الشعري مطلوبا’ أو أي عبارة أخرى لا تأبه لصلاة الشاعر. قد أترك تلك المخطوطات مثل وصية لابني لأواصل اقتراف الشعر في أشياء غير القصائد”.
أما عن تأثير كونه كاتبا متنوع مجالات الكتابة على رؤيته ولغته الشعرية، يشير إلى أن “الرؤية من تلك الأشياء التي لا تكف عن التبلور مثلها مثل اللغة الشعرية التي تكف عن التغير. قد يثري تنوع مجال الكتابة رؤيتنا ولغتنا كما قد يصيبها بالتشرذم أيضا. نحن في سياقٍ ثقافي يفرض وضوح الرؤية وحتى اللغة الشعرية ويعتبر تعدد الأصوات والرؤى نقيصة. لذلك، فمن غير السهل أن ننوع مجالات اهتمامنا. ثمة توازن نفقده في كل مرة. ثمة تركيز يغادرنا إلى الأبد. ثمة اضطراب سيصيب نصوصنا ورؤانا في عمقها. وهو تماما الذي حدث لي بعد صدماتٍ عشتها مترجما وباحثا. صدمات كدت معها أن أصمت عن الشعر إلى الأبد”.
ويرى بن عياد أن أعماله القصصية والروائية والمسرحية للطفل التي تشغل حيزا كبيرا في إنتاجه الإبداعي جاءت نتيجة موقف. ويقول “هي موقف بني على ما نوجهه للأطفال في العموم في تونس وربما في عالمنا العربي. قليلة، حسب رأيي، تلك الكتابات التي تحترم عقل الطفل وممكناته، وأقصد طفل اليوم بالذات. أخذت تلك الكتابة على أنها واجب وطني وإنساني مقدس بحكم تكويني الأكاديمي والبيداغوجي. لا أنكر أني استفدت كثيرا مما يكتب للأطفال بالفرنسية والإنجليزية. كما أن تكويني في مجال ‘المسرح المطبق بيداغوجيا’ بين سنتي 2011 و2012 مثّل منعطفا حاسما لأمضي قُدما في هذا الخيار”.
ويضيف “من حسن حظي أني أعايش الأطفال منذ عشرين سنة تعلمت خلالها حسن الإصغاء لروح الطفل وللطفولة. الطفولة التي تختزل كل شعرية الإنسان وروعته. راكمت في هذه التجربة بالذات واتخذت الجدية سبيلا. فأنا دائم البحث والتنقيب في هذا المجال. غصت تقريبا في كل ما يتعلق بالطفل من علم نفس الطفل وصعوبات تعلمه وتكيفه الاجتماعي وغيرها كثير”.
ثمة نزعة لتحطيم الأصنام الثقافية التي رغم تغير المشهد السياسي لم تتحطم ولم تحدث بها ولو مجرد خدوش
ويتابع بن عياد “شاركت في وضع نظام بيداغوجي للطفولة المبكرة المعتمدة في تونس وأنا سعيد بذلك تمام السعادة. اليوم أجد نفسي صاحب أكثر من أربعين عملا للأطفال بمختلف شرائحهم وبالخصوص لليافعين الذين تتنازعهم الوسائط الحديثة من شاشاتٍ ومواقع اجتماعية وغيرها. ثمة خطورة حقيقية تتربص بهم ابتداء من انتشار ما يسمى الاستهلاك السلبي ومحدودية قدراتهم التخييلية والإبداعية. كاتب الأطفال مطالب اليوم أن يخوض حربا شعواء مع الشاشات التي تعتبر في أحيانٍ كثيرة مربية الطفل ومدربته. مطالب أيضا بأن يكتب نصوصا حيوية تخاطب إمكانياتهم وتجاري نسقهم المتسارع. على من يكتب للطفل اليوم أن يتخلى نهائيا عن خطة الملقن المخفي وأن يتحول إلى حكاء بارعٍ يذهب بالطفل إلى فضاء رحب لعله يتوصل إلى إنقاذه من ضيق ما حوله ومن سجنه اليومي الذي هو الشاشة”.
ويوضح أن الترجمة كانت بالنسبة إليه مغامرة مؤجلة إلى أن حانت اللحظة المناسبة ليخوض غمارها. ولديه اليوم أكثر من عشر ترجمات بين شعر ورواية وكتب فكرية. يقول “عشت كل تلك الترجمات ككاتب وقارئٍ يحول النص الأصلي إلى نص يحاكيه إبداعيا وينقله بسياقه إلى سياق ثقافي وحضاري مختلفٍ. لا أنكر أن الجانب المادي كان دافعا لهذا التوجه لكنه لم ولن يكون الدافع الأساسي. أنا قارئ نهم لما يكتب بالفرنسية خاصة ومطلع تقريبا على جل ما يكتب في الآونة الأخيرة. أحسد نفسي أحيانا على متعةٍ قد يكون أحدهم محروما منها. عديدة هي الكتب التي أفخر بكوني مترجما لها”.
ويضيف “هناك نصوص أخرجتها من ظلمتها وأنجزتها للقارئ العربي على أمل أن يصل بهاؤها بكل حذافيره وأن يجد المتعة نفسها التي عشتها. فرواية مثل ‘قوة معادية’ لجون أنطوان نو، الرواية التي حصلت على أول جائزة غونكور في التاريخ في بداية القرن العشرين، هي من تلك الروايات التي قد تغير فكرتنا تماما على تاريخ الأدب السوريالي والخيال العلمي بالتحديد. فهذه الرواية تتحدث عن مختل نفسي مسكونٍ بكائن فضائي. أما شكلها فهي درس في فن الرواية في رأيي، إذ أن كاتبها يدعي أن مجنونا أوصاه بكتابتها قبيل وفاته. الأمر نفسه مع كتاب ‘كلاب الحراسة’ للمفكر الذي اغتيل شابا على يد جندي نازي بول نيزان. هذا الكتاب الذي نستشهد به جميعا دون أن يكون مترجما”.
ويؤكد بن عياد أنه لا شك أن “نتاجي الإبداعي بعد تجربة الترجمة ليس كما هو قبلها. ولا شك أن الترجمة قد أثْرت هذا النتاج. فأن تملك ناصية لغتيْن أو أكثر حظ كبير. وأن تجري مقارنات بين سياقيْن ثقافيين مختلفين من شأنه أن يجعلك تتوجه إلى عوالم لم تطأها أقدام كثيرة. فشعرا، أنا متأثر بشعراء غربيين أكثر من كوني متأثرا بشعراء عرب. فآرثر رامبو من أولئك الشعراء الذي يمثلون نبعا دائما ما أستلهم منه نصوصي بالإضافة إلى آخرين مثل رونسار وأبولينير الذي أعتبره شاعرا ضروريا يحتاجه جل شعرائنا لفهم الحداثة الشعرية بشكلٍ أفضل”.
المشهد نفسه
يلاحظ بن عياد أن مسألة التلقي في عالمنا العربي تمثل إشكالية الإشكاليات. فالنتاج الإبداعي العربي محترم في رأيه لكنه يبقى بلا تلقّ حقيقي. وما نزال نعاني من قارئ كلاسيكي ينتظر آفاقا بعيْنها وآخر يقرأ لأسماء وصلت إليه لأسباب تكاد لا تكون موضوعية. ومع اتساع دائرة الأعمال الإبداعية هناك ضيق يتسم به التلقي العربي هذا على عكس الغرب الذي لا يكف عن الازدهار انتاجا وإبداعا. ويكاد الكاتب العربي أن يكون بلا صدى وما مواصلة كتابته سوى تضحية سيذكرها التاريخ بخير دون أدنى شك.
ويقول “أتابع المشهد الشعري التونسي وقد أكون واحدا من ممثليه. هو مشهد مهتز اهتزاز واقعنا التونسي البعيد عن أن يكون هادئا. أما قصيدة النثر فما تزال من تلك المحامل الإبداعية التي تترجم ببراعةٍ التحولات التي يعيشها الواقع التونسي. أسماء عديدة لا تكف عن اللمعان في سياقنا الشعري. هناك أصوات اتخذت التأمل سبيلا وأخرى اختارت مسايرة الوضع لتصبح القصيدة متنفسا وترجمة لمواقفها الآنية. لا يختلف المشهد الشعري التونسي كثيرا عن غيره في الأقطار العربية”.
ويضيف “ثمة من ناحية أخرى استهتار بما نطلق عليه اسم قصيدة النثر لتصبح ملاذ كل من أراد أن يدلي بدلوه. إن الأجيال الشعرية الجديدة في تونس تبشر بانسلاخ يكاد يكون تاما عن الأجيال السابقة. واكبت العديد من التظاهرات والأمسيات التي أثثتها حساسيات جديدة وأظن أن الأمر يسير على غير ما ننتظر. ثمة نزعة مبكرة لتحطيم الأصنام الثقافية التي رغم تغير المشهد السياسي لم تتحطم ولم تحدث بها ولو مجرد خدوش. ثورة ثقافية قد تكون بصدد التبلور في الأفق التونسي. لعلها تكون ثورة سباقة كما هو عهد تونس. فالأصوات الجديدة مملوءة بالغضب وعدم الرضى وكم هي محقة”.
أما عن المشهد الثقافي في تونس وحراكه وحضوره داخل المشهد الثقافي العربي عامة، يقول بن عياد “لم يتغير المشهد التونسي كثيرا رغم كل التغييرات التي عشناها وعاشها العالم. في هذا المشهد، ما زال حراس المعبد أنفسهم وعلى هامشه ما زال المهمشون أنفسهم. قد يكون الأمر ذاته جاريا في العالم العربي. هذا العالم الذي ما يزال متعطشا لثورة ثقافية ومعرفية تحرك السواكن. ثورة كالتي حدثت في فرنسا في مايو 1968، فيها تحصل الأصوات الشابة واليانعة على مكانها. كما تجدر الإشارة إلى أن الحراك الثقافي التونسي قد تراجع بعض الشيء قياسا مع بقية البلدان العربية. وذلك عائد إلى أزمة إدارة وإيصال الكتاب التونسي إلى القارئ العربي. هذا بالقياس مع عدة بلدان عربية تمكنت من الانتشار على أوسع نطاقٍ. هو نوع من الركود العائد إلى الأزمات التي عشناها في الآونة الأخيرة”.