التونسيون يباركون إجراءات التقشف

التونسيون يقفون اليوم في صفوف طويلة ينتظرون دورهم بصبر للحصول على السكر والزيت ووقود السيارات والخبز المدعوم من قبل الحكومة، ويتعاملون مع محدودية توفر سلع غذائية في الأسواق بحكمة، وكأننا بهم يدركون أن العالم تغير وأن زمن الوفرة قد انتهى.
وإذا كان التزام الصمت دليل الموافقة، يمكننا القول إن الشارع التونسي موافق على إجراءات التقشف التي اتبعتها الحكومة وباركها بهدوء دون ضجيج، ولم تسجل أيّ احتجاجات على مستوى كبير، أو حتى على مستوى محدود.
بالالتفاف حول حكومتهم ودعمهم لها في سياسة شد الأحزمة، يثبت التونسيون وعيهم أن الأزمة التي تشهدها بلادهم هي جزء من أزمة عالمية سيكون بالإمكان تجاوزها إن لم يكن خلال عام فخلال عامين.
◙ كيف صمدت تونس، وانهارت دولا أكثر ثراء منها؟ البعض يتحدث عن معجزة. ولكن، ما حدث في تونس ليس معجزة. الدول الفاشلة وحدها تنتظر حدوث المعجزات
وسرعان ما تحول تعامل المواطنين مع نقص المواد في الأسواق، إلى سلوك يومي، فالتونسي اليوم حريص على أن لا تجد أيّ نسبة مهما كانت ضئيلة من المواد الغذائية التي يشتريها، طريقها إلى صندوق القمامة.
صبر التونسيون كوفئ، وسياسة شد الأحزمة التي انتهجتها الحكومة أثبتت جدواها، الأرقام تشير إلى ذلك، حيث بينت تراجع العجز التجاري للبلاد (الفرق بين قيمة الصادرات والواردات) بنسبة 29 في المئة إلى 5.33 مليار دولار، خلال الأحد عشر شهرا الأولى من عام 2023، رغم تراجع النمو في القطاع الزراعي بنسبة تجاوزت 16 في المئة بسبب الجفاف الذي تعاني منه البلاد. وكان العجز التجاري في حدود 7.4 مليار دولار، خلال نفس الفترة من عام 2022.
العجز التجاري ليس وحده ما يشير إلى التحسن الإيجابي، فقد أظهرت بيانات رسمية الأسبوع الماضي أن معدل التضخم السنوي تباطأ للشهر الثالث على التوالي إلى 8.3 في المئة، بفعل هبوط الأسعار عالميا، ونمو الصادرات وتراجع نسق الواردات.
وكان التضخم قد بلغ 8.6 في المئة في أكتوبر/تشرين الأول و9 في المئة في سبتمبر/أيلول و9.3 في المئة في أغسطس/آب.
التونسيون على قناعة اليوم أن الأزمة الاقتصادية الحادة التي تشهدها البلاد هي في جانب منها موروثة عن فترة حكم النهضة وفترة حكم الترويكا، وعمّقها لاحقا تفشي جائحة كورونا، وارتفاع تكلفة استيراد الطاقة والمواد الأساسية إثر الأزمة الروسية – الأوكرانية.
وساهمت سياسات التوظيف التي اتبعها الإسلاميون لكسب التأييد، في وضع أعباء إضافية على ميزانية الدولة.
رغم ذلك فضل الرئيس التونسي قيس سعيد عدم الخضوع لمطالب صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار، والعمل بدلا من ذلك على الموازنة بين الصادرات والواردات والتحكم بحجم الاستهلاك.
◙ ما أنقذ تونس هو إرث من الإداريين والاقتصاديين والأكاديميين، لجأت إليهم البلاد عندما اشتدت الظلمة
هناك من سيقول إن التقشف ما لم ترافقه استثمارات يتحول إلى مشكلة، وهذا صحيح. ولكن يجب التذكير أيضا أن الصين، وهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، ما كان لها أن تبني اقتصادها وتحقق النمو الذي حققته لولا سياسة التقشف التي اتبعتها في البداية.
رغم كل المصاعب ظل الاستثمار بما يمثله من أهمية لتحقيق النمو، صلب اهتمامات الحكومة التونسية، وهو ما أكدته بيانات صادرة عن وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي، التي بينت ارتفاع الاستثمارات المعلن عنها، بنسبة 27 في المئة مقارنة بنفس الفترة من سنة 2022 في ظل تركيز على القطاع الصناعي وتوجه نحو بعث مشاريع الجديدة.
وتطورت الاستثمارات أيضا في قطاع الفلاحة والصيد البحري بنسبة 20.9 في المئة سنة 2023، لتبلغ 1845 مليون دينار، 54 في المئة منها سيقع إنجازها من قبل القطاع الخاص.
ولم يكن القطاع السياحي بعيدا عن اهتمام الحكومة التونسية التي عملت على تنويع العرض السياحي ليتناسب مع الطلبات المتغيرة للسياح، وترويج الوجهة التونسية في الأسواق الأوروبية، ليتم اختيارها بين 50 وجهة سياحية عالمية محتلة المرتبة 12 كأفضل وجهة سياحية على مستوى العالم، والأولى على مستوى الإقليمي ومستوى البحر المتوسط.
واللافت أن هذا التصنيف يأتي في وقت كثر فيه الحديث عن أزمة تعيشها السياحة في العالم.
◙ التونسيون على قناعة اليوم أن الأزمة الاقتصادية الحادة التي تشهدها البلاد هي في جانب منها موروثة عن فترة حكم النهضة وفترة حكم الترويكا، وعمّقها لاحقا تفشي جائحة كورونا
قد يكون ما يروى عن قيام جيش روما برش قرطاج بالملح مجرد أسطورة، إلا أنها أسطورة يتكرر حدوثها..
بعد سنوات عشر عجاف، صمدت تونس.. لم تصمد فقط في وجه الفساد ووجه اللوبيات التي صنعت إلى جانب الاقتصاد الرسمي اقتصادا موازيا استنزف عوائد البلد المالية، بل أيضا في وجه جائحة وأزمة اقتصادية عالمية، وثلاث سنوات متعاقبة من الجفاف.
رغم النقص الحاد في منسوب مياه السدود، لم يعطش التونسيون. ورغم التزايد الحاد في استهلاك الطاقة الكهربائية، بفعل درجات الحرارة غير المسبوقة، انقطاعات التيار الكهربائي في تونس نادرة الحدوث.
كيف صمدت تونس، وانهارت دولا أكثر ثراء منها؟ البعض يتحدث عن معجزة. ولكن، ما حدث في تونس ليس معجزة. الدول الفاشلة وحدها تنتظر حدوث المعجزات.
ما أنقذ تونس هو إرث من الإداريين والاقتصاديين والأكاديميين، لجأت إليهم البلاد عندما اشتدت الظلمة.