التوصيات السياسية لإحياء دور مركز الترجمة المصري أم لدفنه

كانت مصر من رواد حركة الترجمة الأدبية في العالم العربي من خلال أدباء مغامرين ترجموا إلى العربية عيون الأدب العالمي مطلع القرن العشرين حيث أطل العرب على آداب جديدة، ما خلق لاحقا حراكا حداثيا قويا يبقى مؤثرا في مختلف أنحاء العالم العربي رغم حالة التذبذب التي شابته. ولكن تراجع دور مصر في الترجمة اليوم هو ما تحاول المؤسسة الرسمية تداركه.
القاهرة - طرحت مجموعة من التوصيات أقرها البرلمان المصري أخيرا لتطوير المركز القومي للترجمة تساؤلات عديدة حول مدى مساهمتها في إحياء حركة الترجمة وتفعيل أدوات المركز الذي يتبع وزارة الثقافة، خاصة مع دعم إنشاء مطبعة مصرية لطباعة الكتب المترجمة بدلا من طباعتها لدى جهات أخرى لتوفير النفقات، وهو ما اعتبره البعض مدخلا لمزيد من تراجع الإنتاج الأدبي المترجم والانغماس نحو مخاطبة الداخل وليس الثقافات المختلفة حول العالم.
أوصت لجنة الإعلام بمجلس النواب المصري الحكومة المصرية بزيادة الاعتمادات المالية للمركز لمواجهة زيادة أسعار الطباعة والحبر، وطالبت بالتعاقد مع مترجمين مهرة، والاهتمام بمنافذ البيع التابعة، مع وضع ترجمة الإنتاج الأدبي والعلمي إلى لغات أخرى على قائمة أولويات المركز بما يدعم القوة الناعمة المصرية.
وأوصت بضرورة قيام المركز القومي للترجمة بإعداد دراسات وافية من خلال مقايسات تقديرية لإنشاء مطبعة خاصة به على أن تتم مخاطبة وزارة التخطيط بهذه الدراسة لتوفير الاعتمادات المالية، بما يؤدى إلى توفير نفقات قيام المركز بالطباعة في الخارج، وقيام المركز بوضع خطة تسويق تضمن زيادة إيراداته على النحو المأمول.
ورغم أن توصيات البرلمان التي تعبر عن توجهات سياسية تضمنت توجيه الدعم المادي لمركز الترجمة دون تأثره بخطة التقشف الحكومية في ظاهرها إيجابية، غير أنها تحمل بوادر لمزيد من التراجع في حركة الترجمة، لأن طباعة الأعمال الأدبية المصرية المترجمة في الداخل يقود إلى أن تظل الكتب رهينة مخازن الحكومة بلا استفادة من تسويقها خارجيا، وأن التجربة السابقة للهيئة المصرية العامة للكتاب التابعة أيضا لوزارة الثقافة كانت شاهدة على فشل هذا التوجه.
التوصيات والأزمة
وتبرهن هذه الخطوات على أن الحكومة تتعامل مع الإنتاج الأدبي والعلمي المترجم من منطلق تجاري بحت ولا تنظر إلى العوامل الإيجابية التي تترتب على تبني سياسات شاملة تضمن تعزيز حركة الترجمة التي تراجعت في السنوات الماضية بفعل تراجع الدعم الحكومي للأعمال المترجمة وضعف جودة كثير من الأعمال التي تواجه مشكلات جمة في تسويقها خارجيا في ظل صعوبة الاستعانة بمترجمين أجانب لترجمة الأعمال المصرية التي تتطلب نفقات مرتفعة مقارنة بما يحصل عليه المترجمون المصريون.
ويروج المركز القومي للترجمة في مصر، وهو من أبرز الهيئات التي تلقى اهتماما من المثقفين والقراء للاطلاع على ما تقدمه، بأنه يتصدر حركة الترجمة على المستوى العربي ارتكانا على أعداد الكتب المترجمة كل عام ووصلت أحيانا إلى 300 كتاب.
وتكمن الأزمة في جودة الكتب، وأن الاستعانة بقدر أكبر من المترجمين الشباب وعدم الاهتمام بمدى معرفتهم بالثقافات الغربية بالشكل الكافي لا يخدم وصول فلسفة الأعمال الأدبية بصورة سليمة عقب عملية الترجمة.
ويقول مدير المركز القومي للترجمة سابقا أنور مغيث إن توصيات البرلمان لن تخدم حركة الترجمة بشكل إيجابي، وتشير إلى إصرار حكومي نحو تكرار أخطاء الماضي، وأن إنشاء مطبعة مصرية لترجمة الأعمال إلى لغات أجنبية يعني أننا سنجد كتبا بالصينية أو الفرنسية أو غيرها من اللغات في المكتبات المصرية، لأن فرص تسويقها للخارج تتقلص مع رغبة الدول في الاطلاع على كتب مترجمة إلى لغاتها عبر مترجمين من جنسياتها.
ويؤكد مغيث في تصريح لـ"العرب" أن عملية اختيار النصوص المصرية المترجمة إلى العالمية يجب أن تكون بالتوافق مع دور النشر الأجنبية وهؤلاء من قرروا نوعية الكتب التي يسعون لتسويقها في بلدهم، وليس العكس.
كما أن المركز القومي للترجمة سيكون عليه الاستعانة بمترجمين لديهم أعمال منشورة في هذه البلدان وإن لم يكونوا من جنسياتها، وهناك الكثير من المترجمين المصريين في الخارج يمكن الاستعانة بهم إذا وجدت رغبة لدعم القوة الناعمة والإنتاج المصري.
ويشير مغيث إلى أن الطباعة في مطابع محلية بمصر قد تكون أكثر تكلفة من طباعتها بالخارج، لأنه في الحالة الثانية سيكون هناك اتفاق مع دور النشر الأجنبية التي تتولى مهمة توزيع الكتب المترجمة لأن تتحمل قيمة 50 في المئة من الطباعة، على أن تتحمل القاهرة النصف الثاني، وأن الجهات الأجنبية توافق على تلك العروض لأنها صاحبة مصلحة في بيع الكتاب.
◙ مصر تواجه أزمة كبيرة في توفر المترجمين وتكرار الأعمال الأدبية الأجنبية المترجمة وقلة دعم المترجمين والناشرين
ويتفق نقاد على أن تشجيع حركة الترجمة يتطلب دعما حكوميا للمترجمين الذين ينقلون الأدب المصري إلى العالمية، والدول التي تستهدف تعريف العالم بثقافاتها تضاعف من دعم المترجمين ومراكز الترجمة في الدول التي تستهدفها وفي هذه الحالة يمكن اختيار الأعمال التي يتم ترجمتها.
ويتطلب الأمر إحداث حالة من المزج بين شباب المترجمين ومن يملكون خبرات واسعة في هذا المجال ما يدعم وجود جيل في مركز الترجمة المصري وغيره من الجهات التي تعاني من ندرة المترجمين الذين تتوافر فيهم إمكانيات لغوية وثقافية جيدة.
يشدد مغيث على أن زيادة حصيلة الأعمال المترجمة يمكن أن تتضاعف في مصر، حال دعمت الحكومة دور النشر الخاصة وشجعتها على الترجمة، وأن ضعف حركة الترجمة في العالم العربي بوجه عام يرجع إلى أن الجهات الخاصة تخشى من خسارة تكلفة الكتب المترجمة التي قد تكون مضاعفة بالنسبة إلى الإنتاج الأدبي المحلي.
وفي هذه الحالة سوف يصبح بإمكان الحكومة دعم ترجمة الكتب التي تستهدف تثقيف مواطنيها بما تحتويه من معلومات وما يدعم رغبتها في نشر الإنتاج المحلي عالميا، إذ تكمن أهمية الترجمة في رغبة الشخص في الاستطلاع، والاطلاع على تجارب بشرية أخرى، ومن المتفق عليه أن أي نهضة قوية لأي دولة تسبقها حركة ترجمة قوية، وأن الترجمة تبقى مستمرة وبقوة حتى بعد النهضة التي تحققها الدول.
دعم ترجمة الكتب
ويوضح الناقد الأدبي مصطفى بيومي أن توصيات البرلمان توحي بالجدية والرغبة في إثراء حركة الترجمة، لكن تفعيل ما يصدر من تشريعات يبقى أمرا صعب المنال وأن الكثير من التجارب والتوصيات السابقة لم تنته إلى شيء بسبب وجود فجوة بين القرارات النظرية والتطبيق، كما أن مشكلات حركة الترجمة أكبر من مجرد حصرها في الطباعة والتعاقد مع مترجمين جدد.
ويذكر بيومي في تصريح لـ”العرب” أن مصر تواجه أزمة كبيرة في توفر المترجمين ممن يغوصون في أعمال اللغة العربية ويدركون ظلالها بشكل كامل في ظل التراجع الظاهر في مستوى التعليم خلال الفترة الماضية، وبالتالي تخرج كثير من الأعمال بصورة لا تجذب القارئ المحلي أو العربي الذي تصل إليه الترجمة المصرية، كما أن فلسفة اختيار الأعمال المترجمة وتحديد ما الذي نريده ونحتاجه من الثقافات المختلفة تغيب عن بعض الجهات الحكومية.
ويلفت إلى أن تكرار الأعمال الأدبية الأجنبية المترجمة إلى العربية، وإن كانت مهمة، يشكل أزمة أخرى، وأحد أبرز المشكلات التي تقف عائقا أمام تطوير حركة الترجمة، وقد تكون هناك ترجمات بأكثر من 25 نسخة مختلفة لكتاب واحد في دول عربية، بسبب غياب التنسيق بين الجهات الثقافية العربية وتراجع القدرة على الوصول إلى قدر أكبر من المهتمين، ما يتطلب إتاحة الكتب المترجمة في المدارس والجامعات.
وتصدرت مبيعات المركز القومي للترجمة خلال الربع الأول من العام الحالي ثمانية إصدارات مُترجمة إلى اللغة العربية الأكثر طلبا ومبيعا، أبرزها الطبعة الثانية من النسخة العربية من كتاب "موسوعة النظرية النقدية" لأندرو إدجار وبيتر سيدجويك، والنسخة العربية من كتاب "السياسة" لأندور هيوود.
وتشير أرقام سابقة للمركز القومي للترجمة إلى أن اللغة الإنجليزية تسيطر على النسبة الأكبر من الكتب المترجمة بالمركز بنحو 60 في المئة، والفرنسية من 15 إلى 20 في المئة، وباقي النسبة إلى اللغات أخرى، وتستحوذ الكتب الأدبية على نسبة 40 في المئة من المبيعات، والنسبة الأخرى للكتب التاريخية والسياسية والفنية والسينمائية.