التوحد لا يقف عقبة أمام النجاح

أكدت العديد من التجارب أن تبني الأشخاص المصابين بالتوحد له فوائد كبيرة في بيئات العمل المختلفة، حيث أثبتوا نجاحهم في العديد من المجالات رغم التهميش الاجتماعي الذي يعيشونه. ويعتبر دعم أسرهم في مختلف مراحل التعليم وإدماجهم في الجامعة أساس نجاحهم المهني والاجتماعي.
الرباط - يعتبر إنجاب طفل مصاب بالتوحد أو مختلف فرصة لعيش تجارب فريدة من نوعها وساحرة، وفق ما جاء على لسان الفيلسوف والكاتب الفرنسي المصاب بالتوحد، جوزيف شوفانس. وأكد شوفانس، الاثنين بالرباط، أن الدراسة الجامعية يمكن أن “تضطلع بدور هام في تفتق شخصية المصابين بالتوحد”.
وأضاف خلال ندوة نظمت في كلية العلوم حول موضوع “التوحد: أي إدماج في الجامعة؟”، أنه قد “حالفه الحظ بالمشاركة في مشروعين يهدفان إلى جعل الجامعة أكثر إدماجا. لقد كانت هاتان التجربتان مصدر سعادة بالنسبة إلي على المستويين العلمي والإنساني، لأن التنوع البشري هو ما يجعل العالم أفضل وأكثر إثارة”.
وفي حديثه عن مكانة الجامعة في الإدماج الاجتماعي، قال شوفانس إنه مقتنع بأن “تصورا مشتركا لحلول من أجل مستقبل كل واحد منا هو واجبنا جميعا”، مضيفا أنه “بانخراط الفاعلين الجمعويين، أنا متأكد أننا قادرون على بناء مجتمع أكثر إدماجا”، وفق وكالة المغرب العربي للأنباء “ماب”.
ويرى الكاتب الفرنسي، الذي خطف الأضواء بفضل مسيرته وجعل من إعاقته غير المرئية قوة ومصدر تحفيز، أن إنجاب طفل مصاب بالتوحد أو مختلف هو فرصة “لعيش تجارب فريدة من نوعها وساحرة. وأعتقد أن الإنسانية تكون أكثر ثراء عندما تكون في صيغة الجمع”.
وذكر شوفانس، الذي أعرب عن سعادته لأنه ولد مصابا بالتوحد، وهي “الفرصة” التي سمحت له بحضور هذا اللقاء الرائع، أنه “لا توجد طريقة واحدة فقط للنمو والتطور، بل هناك عدة طرق، والتوحد إحداها”.
وبعدما أبرز أهمية الإدماج الاجتماعي المتناغم على كافة المستويات، أكد الفيلسوف أن المؤسسات المدرسية التي تقدّم أفضل أداء هي تلك الأكثر إدماجا.
تهيئة بيئة عمل تضم زملاء في حالات التوحد لم تزد بيئة العمل تنافرا بل أتاحت للأشخاص فرصة إظهار مواهبهم الحقيقية
وبالنسبة إلى جوزيف شوفانس، فإن توحد “غريتا ثونبرغ” كان بمثابة محفز لها للتركيز والتخصص في التغيّرات المناخية. وقال في هذا الصدد “هذه الشابة البالغة من العمر 16 سنة ليس لديها أي شعور بالتراتبية الاجتماعية، وهي مخصصة للأشخاص المصابين بالتوحد، ما سمح لها بالوقوف أمام قادة كبار”.
وبخصوص موضوع التوحد والتشغيل، أثار شوفانس انتباه الحضور إلى شركة فرنسية متخصصة في الأغذية الزراعية جعلت من عمالها المصابين بالتوحد قوة عمل، إذ “تم تحسين إحصائيات المردودية والربحية للشركة من قبل هؤلاء العمال، والذين لم يسجلوا يوما واحدا من الإضراب أو الغياب، علاوة على نظافتهم في مكان العمل وكفاءتهم في تنفيذ مهامهم بكل دقة”.
وجدير بالذكر أن جوزيف شوفانس كما هو فيلسوف وكاتب فرنسي ورحالة مصاب بالتوحد، هو مناضل من أجل كرامة الأشخاص المصابين بالتوحد. وبعد مرحلة دراسية شاقة، حصل على الأستاذية من كلية العلوم السياسية بباريس، ثم حاز على الدكتوراه في الفلسفة والعلوم الاجتماعية من مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية. ويتقاسم شوفانس، الذي يتقن سبع لغات، اكتشافاته بالأساس في مقالاته ومن خلال منشوراته، بما في ذلك سيرته الذاتية “أنا في الشرق!”.
ومن جهته، قال رئيس جامعة محمد الخامس بالرباط، محمد غاشي، إن الجامعة، من خلال هذه الندوة، تعكس حضورها في هذا النوع من العمل المواطناتي لإظهار أن التوحد لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن يقف عقبة أمام النجاح.
وأبرز غاشي أن هذا الأمر “لم يعد خيارا، بل بات التزاما وواجبا لتقديم برنامج دامج للطلبة ذوي الاحتياجات الخاصة. ومن خلال هذا النوع من التظاهرات، تبرز جامعة محمد الخامس قضية الطلبة والمواطنين ذوي الاحتياجات الخاصة”.
وشكّلت هذه الندوة، التي نظّمت بشراكة مع جامعة محمد الخامس وسفارة فرنسا بالمغرب وجمعية المنار، ونشّطها شوفانس، فرصة لتوعية الحضور المؤلفين من الآباء وأعضاء هيئة التدريس والطلبة بأهمية إدماج الشباب المصابين بالتوحد في الجامعة.
وحسب منظمة الصحة العالمية، يعاني طفل واحد من أصل 160 طفلا من اضطراب طيف التوحد، الذي يظهر في مرحلة الطفولة، ولكنه غالبا ما يستمر في مرحلتي المراهقة والبلوغ.
وكشف تقرير حديث لهيئة الاذاعة البريطانية “بي.بي.سي” أن دراسات أجرتها جامعة هارفرد والرابطة البريطانية للإعلام التفاعلي، توصّلت إلى أن تبني وتعظيم مواهب الأشخاص الذين يفكّرون بطريقة مختلفة، قد يفضيان إلى تحقيق فوائد هائلة للعمل، مشيرة إلى أن وجود قوة عاملة متنوعة تسهم في تحسين الابتكار وحل المشكلات، نتيجة اختلاف رؤية وفهم الأشخاص للمعلومات.

وتعتبر شركة “ألترانوتس” للبرمجيات، التي يوجد مقرها في نيويورك والتي أسسها راجيش أناندان البالغ من العمر 46 عاما، واحدة من الشركات العالمية التي سعى مؤسسها إلى إثبات أن حالات التنوع العصبي والتوحد داخل بيئة العمل يمكن أن تمثّل ميزة تنافسية في مجال المال والأعمال.
وقال أناندان لـ”بي.بي.سي”، “تتوافر مواهب مذهلة لدى الأشخاص الذين يعانون من التوحد، ويتعرّضون إلى التجاهل لأسباب كثيرة خاطئة، ويُحرمون من فرصة عادلة لتحقيق النجاح في العمل، وإن كانت بيئة العمل وسلوكياته ليست بنفس الكفاءة بالنسبة إلى كل شخص، إلا أنها تضرّ كل من كانت لديه طريقة مختلفة في التفكير”.
وشركة “ألترانوتس” واحدة من الشركات التي تبحث عن مواهب المصابين بالتوحد، إلى درجة أن الشركة أعادت تصميم عملها بطريقة تستهدف العاملين الذين يعانون من التنوع عصبيا، كما غيّرت إجراءات التعيين في الشركة على نحو يستوعب نشاط المصابين بالتوحد بطريقة فعّالة، فضلا عن تطوير بيئة عمل جديدة تمّكن من إدارة فرق عمل تضم موظفين مختلفين.
وبعد مضي خمس سنوات أصبح 75 بالمئة من موظفي شركة “ألترانوتس”، من المصابين بالتوحد، وأحد الأسباب في ذلك هو تبني الشركة طريقة مبتكرة في عملية التوظيف، إذ لا توجد إجراءات مقابلة للتوظيف، ولا حاجة بالمتقدمين إلى خبرة سابقة في مهارات فنية محددة.
وأفاد أناندان بأن تهيئة بيئة عمل بطريقة تضم زملاء من حالات التنوع العصبي لم تزد بيئة العمل تنافرا أو انعدام كفاءة، بل أتاحت للأشخاص الذين تعرضوا لإهمال المجتمع فرصة إظهار مواهبهم الحقيقية.