التنوع الثقافي الشعبي في الجزائر.. ثروة هائلة مهددة بالضياع

تعتبر الثقافة الوسيلة الأولى والأهم لتحقيق التقدم لأي بلد كان، فمن خلالها يمكن تحقيق التعايش واللحمة الاجتماعية، وكذلك غرس قيم الفكر النيّر ومقاومة التعصب والعنف، هذا إضافة إلى الأبعاد الجمالية، علاوة على البعد الاقتصادي الذي يمكن للثقافة تحقيقه، حيث لا تكتفي بكونها قطاعا جامدا بلا مردودية. وهذا ما تسعى الجزائر إلى تحقيقه.
الجزائر – على الرغم من اتساع المساحة والتنوع الجغرافي وعمق التاريخ وتعدد الحضارات الذي حبيت به الجزائر، ما جعلها من أكثر الدول تنوعا إثنيا وثقافيا، مقارنة بدول جارة مثل تونس والمغرب، ظل الاهتمام بهذا التنوع الثقافي الشعبي محتشما إن لم نقل منعدما، بشكل ضيعت فيه الجزائر موردا هاما على الصعيد الثقافي والعلمي، وأيضا على الصعيد السياحي والاقتصادي.
كما تزخر الجزائر أيضا بمعالم تاريخية لا تعد ولا تحصى وتحف أثرية نادرة في العالم تبرز مختلف الحضارات التي تعاقبت على الجزائر منذ فجر التاريخ وحتى عينات من الحضارة الفرعونية والإغريقية، يمكن أن تكون قبلة للملايين من السياح التواقين إلى استكشاف علاقة الإنسان بالبحر واليابسة على مدار آلاف السنين، وما قد يدره ذلك على البلاد من إيرادات قد لا تقل عن مستويات مبيعات النفط والغاز وحتى الإنتاج الزراعي.
ويجمع المختصون والباحثون على أن موضوع الثقافة الشعبية في الجزائر يتعدى طرح الاكتشاف الفولكلوري الفضولي القائم عل الفرحة بالمأثورات الشعبية والحرف التقليدية والإبداعات الشعبية. كما يتعدى مستوى الاستغلال السطحي والممارسات الشعوبية الضيقة.
السلطة والتراث الثقافي
هناك بعض المحاولات لتلافي بعض المشاريع التي بقيت بلا فاعلية، ومنها تأسيس “معهد الثقافة الشعبية” في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، حيث افتتحت الجامعة الجزائرية هذا المعهد بمدينة تلمسان غربي البلاد، ووقتذاك وصف الأستاذ محمد سعيدي هذا الحدث غير المسبوق بأنه ترجمة لبداية نهضة الجامعة الجزائرية وتجديدها وتحريرها من تلك القيود الأيديولوجية والإثنية الضيقة التي حرمتها من الاستفادة من علوم كثيرة من جهة، ومن جهة أخرى أغمضت عينيها وتجاهلت العديد من الموضوعات الأصلية ذات الأهمية القصوى كالتاريخ الثقافي الجزائري وموضوع الثقافة الشعبية.
لقد أدى شيوع وانتشار الثقافة الشعبية وقيمتها العلمية والحضارية والتاريخية والسياسية، إلى بروز خارطة ثقافية وسياسية جديدة نجحت في كسر التابوهات والممنوعات التي سلطت عليها بكل مظاهرها المادية والمعنوية، حتى وصلت إلى نيل الاعتراف الرسمي ترجمةً لإقرار رأس السنة الأمازيغية عيدا رسميّا، يهدف إلى تكريس الهوية الوطنية بحسب تعبير السلطة الرسمية.
في هذا الصدد يقول مهدي براشد المختص في الثقافة الشعبية، لوكالة الأنباء الألمانية، إن “سبب عدم الاهتمام بالمنتوج الثقافي والفني الشعبي في الجزائر مرده السياسة التي انتهجتها السلطة في الجزائر، غداة الاستقلال، تجاه كل ما هو شعبي متنوع مخالف للثقافة الرسمية الأحادية، كما يمليها الانتماء الأيديولوجي للسلطة، ممثلة في البعد القومي العربي الإسلامي، لا بصفته أحد مكونات الهوية الجزائرية بل باعتباره المكون الهوياتي الوحيد للجزائر، متجاهلة بذلك البعد الأمازيغي للجزائر، إضافة إلى البعد المتوسطي والبعد الأفريقي لها، وهي ثلاثة أبعاد إهمالها يعني إهمال ثلاثة أرباع الإنتاج الثقافي والفني لبلد هو أكبر بلد أفريقي وأكبر بلد عربي، وأكبر بلد متوسطي”.
الواقع العلمي الثقافي والاقتصادي أثبت أن الاهتمام بموضوع الثقافة الشعبية ليس ظرفيا بل هو ضرورة ملحة
ويضيف براشد “إن تخوف السلطة الجزائرية من الاهتمام بالثقافة الشعبية وفنونها، بعد الاستقلال، مرده إلى أن هذا الاهتمام سيحيل إلى التنوع والخصوصية الثقافية، وهي مجالات استثمر فيها الاحتلال الفرنسي وأعياها بحثا في الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا واللغات الأم أو اللغات الدارجة”.
ويلفت إلى أن مباحث الأنثروبولوجيا والتراث الشعبي في الجزائر قد اقترنت في بداية الاستقلال، وبصورة رهيبة، بأسئلة جريحة وصعبة وخطيرة، كادت تعصف بالكيان العلمي والمعرفي للأنثروبولوجيا نفسها كعلم أصيل وعريق، وبالتراث الشعبي الذي ظل موضوع مراهنات غير مسؤولة وغير علمية بقيت تلاحقه مدة من الزمن. وقد استقرت في ذهن السلطة الجزائرية على أنها علم استعماري بامتياز، سخرته المنظومة الكولونيالية الفرنسية من أجل استعمار البلاد؛ فدراسة المجتمع الجزائري وثقافته وعاداته ومعتقداته وفنونه وأشكاله التعبيرية وأعرافه، كانت من أجل معرفة الشعب الجزائري والتحضير لاستراتيجية استعمارية تتماشى مع أنماط تفكيره.
لكن الحكومة الأولى للرئيس الجزائري الحالي عبدالمجيد تبون، والتي يقودها رئيس الوزراء عبدالعزيز جراد، تحاول أن تنأى بنفسها عن ممارسات ومعتقدات الماضي، حيث أكدت على اقتناعها بأن الاعتراف بكامل التراث الثقافي واللغوي للشعب الجزائري من شأنه أن يحافظ على الوحدة الوطنية ويعززها.
وأدرجت هذه الحكومة ضمن مخطط عملها محورا ذا أولوية ويصب في هذا الاتجاه من خلال ترسيخ وترقية وحماية مكونات الهوية الوطنية المتمثلة في الإسلام واللغة العربية واللغة الأمازيغية، وتوطيد ارتباط الشعب الجزائري بتاريخه وثقافة أسلافه العريقة.
ويقوم مخطط الحكومة على مسعى يرمي إلى دعم ومرافقة الإبداع الفني والمشاريع الثقافية من خلال توفير فضاءات موجهة إلى المجالات الصناعية المهملة والفضاءات الحرة للفنانين والمبدعين، كما يعمل على تثمين مهنة الفنان وجميع الفاعلين في الثقافة وترقية دورهم ومركزهم الاجتماعي.
وتستهدف الحكومة جعل جميع قدرات الهياكل الأساسية المتصلة بالإشعاع الثقافي ذات مردودية واستخدامها على النحو الأمثل على غرار قاعات العرض والمسارح وقاعات السينما والمتاحف، بما يحولها إلى مؤسسات اقتصادية “مربحة”، مع ترسيخ البعد المتعلق بالحفاظ على التراث الوطني المادي واللامادي وحمايته وترقيته وتوفير كل العناية المطلوبة له.
أداة للقوة الناعمة
على ربوع مدن الجزائر تتوزع ثروات غير مستغلة لا تقدر بثمن، لم تعرف قيمتها على ما يبدو السلطة والجزائريون الذين أهملوا الموروث الثقافي الذي لا ينضب لصالح الاهتمام أكثر بالجوانب المادية.
يؤكد إبراهيم سرحان -وهو إعلامي سافر قبل سنوات إلى الخارج- أن تسويق الثقافة الشعبية جزء من تسويق السياحة، مشيرا إلى أن هذا المفهوم غير مدرج في أولويات الجزائر، فالحكومات المتعاقبة كانت غارقة في أولويات أخرى لذلك دائما نرى وزير الثقافة أو السياحة شخصا غير مهم في أداء الحكومة، ويمكن أن يظل في منصبه لسنوات دون تغيير ودون أدنى إنجاز.
ينبّه سرحان إلى أن تسويق الثقافة الشعبية في العالم يعتمد على الإنتاج وعلى مهرجانات دورية يتم الاعتناء بها مع الحرص على أن تمثلها وجوه ذات قدرة على ترك تأثير في الخارج، وهو ما لا تتيحه الجزائر حتى الآن، يضاف إلى ذلك ضعف المنصات التي يمكن أن توفر محتوى هذه الثقافة.
كما ينتقد سرحان أداء الإعلام الجزائري ويصفه بـ”الضعيف” ولا يهمه التوجه بمحتواه إلى متلقٍّ خارج الحدود، مبرزا أن عامل اللغة الغريبة عن الشعوب الأخرى يصبح عائقا بينما لا توجد أدوات الترويج.
ويستطرد قائلا “اللغة إذا كانت معروفة تسهّل على الشعوب الأخرى التفاعل مع الإنتاج الثقافي حتى لو لم تكن هناك سياسة محكمة وبرامج الترويج. وفي النهاية الثقافة بشكل عام هي أداة للقوة الناعمة للحضارات والدول وهذا ما لا تعمل عليه الجزائر”.
يتحدث مراد بن عيسى، مدير دار الثقافة “أحمد رضا حوحو” بمحافظة سكرة جنوبي الجزائر، عن الحياة الثقافية فيصفها بـ”مظاهر التفكير والمعتقدات السائدة في المجتمع تجاه النواحي الحضارية كالعلوم والفنون والآداب، ولكون هذه المظاهر الثقافية والفنون المختلفة هي المرآة العاكسة لوضع المجتمعات ووسيلة في ذات الوقت لتنميتها وازدهارها من خلال طرح أفكار جديدة لتحسين شروط الحياة من خلال محاكاة الواقع والمحاولة الجادة للسمو عنه، وإعلاء قيم الجمال والرقي”.
الحكومة الجزائرية "الجديدة" أدركت أخيرا أن الثقافة لبنة مهمة في تحقيق التعايش واللحمة الاجتماعية والتنوير ومقاومة التطرف والانغلاق إضافة إلى دورها في الإنعاش الاقتصادي
وينوه بن عيسى إلى أنه كان لزاما عليهم كمسؤولين البحث عن سبل جديدة لجزائر جديدة ورسم ملامح رؤية وإستراتيجية متكاملتين نابعتين عن حس ثقافي ووعي فني، مع إدراك مدى أهمية التركيز على الثقافة والفن وإحياء التراث بوصفها عناصر أساسية لتعزيز الانتماء الوطني، وترسيخ الهوية، وتحقيق التنمية الثقافية المنشودة.
لقد أثبت الواقع العلمي الثقافي والاقتصادي أن الاهتمام بموضوع الثقافة الشعبية ليس ظرفيا وليس غريبا، بل هو ضرورة ملحة تفرضها إشكاليات الأصالة والمعاصرة وإشكاليات البحث في الهوية وفي التاريخ الاجتماعي الثقافي الشعبي.
الظاهر أن الحكومة الجزائرية “الجديدة” أدركت أخيرا أن الثقافة لبنة مهمة في تحقيق التعايش واللحمة الاجتماعية والتنوير ومقاومة التطرف والانغلاق إضافة إلى دورها في الإنعاش الاقتصادي، لذا تتوجب رعايتها وحماية مكوناتها وكذا رموز الثقافة الجزائرية، ولكي لا تبقى الثقافة قطاعا جامدا لا بد من التعجيل بوضع الثقافة في السياق الاقتصادي.
واختارت وزارة الثقافة والفنون شعار “ثقافتنا في وحدتنا وتنوعنا” عنوانا للدخول الثقافي الجديد، وهو ما يعكس وجود اقتناع لدى هذه الحكومة بضرورة التثمين الاقتصادي للتراث الثقافي من أجل ضمان التنمية لفائدة الأجيال الحالية والقادمة، من خلال ربطه بالسياحة المستدامة.
وتؤكد وزارة الثقافة أن المواقع الأثرية والفضاءات التاريخية المحمية التي تضرب في عمق التاريخ “تشكل رصيدا ثمينا بحاجة إلى تثمين ليتحول إلى مواقع استقطاب تولد الثروة وتساهم في بناء الاقتصاد البديل”.
كما أن استحداث النشاطات المثمنة ذات الصلة المباشرة بطبيعة هذه المواقع وأبعادها الحضارية من شأنه “المساهمة في بعث حركية تحول هذه المواقع إلى أقطاب لنشاطات خدماتية وتجارية مولدة للثروة، لكن ذلك يبقى مرهونا بتحويل الأقوال والأفكار إلى أفعال على أرض الواقع، والتخلص من ‘الكسل’“.