التمثيل وعلم النفس.. ضرورة وجود مرجع علمي يرشد المبدعين

نبيل القط لـ"العرب": أفلام لهيتشكوك و"صمت الحملان" فيهما أخطاء نفسية.
الخميس 2025/06/05
ندوة كشفت الكثير حول علم النفس والدراما

يعتبر الاستشاري المصري في الطب النفسي نبيل القط أن الكثير من الأفلام والمسلسلات قدمت أفكارا خاطئة عن النفس البشرية، لذلك من الضروري أن تكون هناك مراجع علمية ترشد المبدعين في تناولهم للشخصيات. كما أنه ينظر للعصر الجديد على أنه ربما يكون نهاية عصر الإنسان بالشكل الذي نعرفه، في مقابل ظهور إنسان مختلف بيولوجيا.

القاهرة – لا ينفصل الفن عن علم النفس. يحتاج المبدعون في مختلف الفنون دومًا إلى فهم الأبعاد الداخلية الخفية للنفس البشرية، كي ينجحوا في تقديم شخصيات واقعية، تكون سلوكياتها داخل القصة أو الرواية أو الفيلم مبررة، لها دوافع حقيقية، وليس فقط وفق ما يريده المؤلف أو المخرج، إنما تتماشى مع الواقع ولا تخالف العلم.

استضافت مكتبة تنمية بحي المعادي (جنوب القاهرة) ندوة نظمتها الطبيبة غادة لبيب مديرة مجموعة “بوك غاردن” للقراء على موقع فيسبوك بالتعاون مع تطبيق “أخضر” الإلكتروني لتلخيص الكتب، تحدث فيها استشاري الطب النفسي المصري نبيل القط، والذي شارك في عدد من الأعمال الدرامية، مستشارًا نفسيًّا وممثلا يؤدي دور طبيب نفسي، ومنها مسلسلات “تحت السيطرة” و”سقوط حر” و”60 دقيقة”.

كتاب لصناع الدراما

كل ما يرتبط بالشخصيات في السينما والدراما؛ طبيعتها وتحولاتها وردود أفعالها على المواقف المختلفة، يرتبط بعلم النفس

كشف نبيل القط عن اهتمامه حاليا بإعداد كتاب يكون موجهًا لصناع السينما والدراما لمساعدتهم على فهم الصحة النفسية، ويصبح بمنزلة مرجع نفسي دراسي للمبدعين في هذا المجال، بدءًا من المؤلف وصولا إلى المخرج والممثلين.

وأضاف في تصريح لـ”العرب” أنه يعمل في مجال الدراما منذ حوالي عشر سنوات، ويرى أن كل ما يرتبط بالشخصيات في السينما والأعمال الدرامية؛ طبيعتها وتحولاتها وردود أفعالها على المواقف المختلفة، يرتبط بعلم النفس.

ولاحظ نبيل القط أنه كثيرًا ما تكون هناك أخطاء وأمور تخالف علم النفس في الأفلام والمسلسلات، بما في ذلك أعمال سينمائية كبيرة ومهمة، مثل فيلم “صمت الحملان” وفيلم “طار فوق عش الوقواق”، فضلا عن أفلام لمخرجين عالميين كبار مثل هيتشكوك، ما يستلزم الشرح والتوضيح لمساعدة صناع السينما والدراما على أن تخرج أعمالهم أكثر دقة في ما يتعلق بالصحة النفسية وعلم النفس.

وصدر للطبيب المصري كتابان هما “حكايات التعب والشفاء” عام 2020 و”العالم النفسي للنساء” عام 2024، عن دار المحروسة للنشر في مصر.

سألته المحاورة غادة لبيب عما يدور في ذهنه بشأن خططه للكتابة مستقبلًا، فأجاب بأنه يفكر أيضًا (بخلاف فكرة كتاب السينما وعلم النفس) في إصدار كتاب عن مسألة العبور الجنسي، لأنه موضوع صعب وشائك، والكثير من الناس لا يفهمونه، بالإضافة إلى كتاب عن الإدمان.

بدأت علاقة نبيل القط بالصحة النفسية مبكرة للغاية، دون تخطيط منه أو قرار، عندما أصيبت جدته بـ”اضطراب ثنائي القطب”، وكان أول مستشفى نفسي يراه وهو طفل في الخامسة من العمر هو مستشفى “بهمن” للصحة النفسية بمنطقة حلوان (جنوب القاهرة)، إذ اصطحبه جده بصفته أكبر أحفاده إلى هناك للتعامل الطبي مع الاضطراب النفسي لدى جدته.

لم تكن تلك الواقعة بداية اهتمام القط بالصحة النفسية أو دافعًا وحيدًا منذ الصغر للتخصص في مجال الطب النفسي عندما كبر، لكنه لا يستبعد أن تكون كذلك ضمن عدة عوامل أخرى، لأن دوافع السلوك لدى البشر تكون دومًا متعددة ومتداخلة.

كتب نبيل القط القصة القصيرة ونشرها في الصحف منذ الثمانينات من القرن الماضي، من هنا نشأت علاقته بالحكي، واختار عنوان أول كتاب له ليكون “حكايات التعب والشفاء”، ولا يزال يتمنى أن يكتب المزيد من الكتب عن المريض النفسي، الذي عرفه عن قرب وخبِر معاناته، على مدى 35 عامًا قضاها في هذا المجال، موضحًا أن ما نعرفه عن المريض النفسي هو مجرد قشور.

الصحة النفسية للنساء

pp
كثيرًا ما تكون هناك أمور تخالف علم النفس في الأفلام والمسلسلات، بما في ذلك أعمال سينمائية مهمة، مثل فيلم "طار فوق عش الوقواق "

يحتفظ الطبيب المصري بحكايات كثيرة لم ينشرها بعد عن حالات استثنائية تعامل معها من المرضى النفسيين، كانت هي الأكثر غرابة وإدهاشًا، من زاوية التعافي أو العمق أو الجرأة.

قادت الاعتداءات الجنسية التي تعرضت لها بعض النساء في ميدان التحرير (وسط القاهرة) خلال أحداث ثورة 25 يناير 2011 إلى انشغال القط بالصحة النفسية للنساء، لمعرفة كيفية مواجهة آثار مثل هذه الاعتداءات وفهم أبعادها، فضلًا عن محاولته فهم الظاهرة النسائية بشكل عام، فأصدر العام الماضي كتاب “العالم النفسي للنساء”.

سألت “العرب” الطبيب المصري عما إذا كانت سمات الشخصية وراثية، أي ترتبط بالجينات، أم مكتسبة بفعل التربية والبيئة المحيطة، فأجاب بأن القاعدة العامة، من خلال دراسات التوائم المتماثلة، هي أن الجينات تشكل حوالي خمسين في المئة من تكوين الشخصية، بينما يأتي النصف الآخر من البيئة والتربية.

وأشار إلى ضرورة ملاحظة شيء مهم، هو أن الجينات ووظائفها يمكن أن تتأثر بالبيئة المحيطة، فبعض الجينات قد يتوقف عملها بوجودها في بيئة معينة، أي أن البيئة هنا لها دور أساسي في وظائف الجينات نفسها وليس فقط تعديل السلوك.

وأضاف أن الشخصية الإنسانية بها سمات متعددة من الضعف والقوة، والكرم والبخل، وكل إنسان يمكن اعتباره “قماشة عريضة” بداخلها الكثير من السمات، ويمكنه أن يستخرج السمة المناسبة ليتعامل بها مع كل موقف، وما يساعد على ذلك البيئة المحيطة أو التربية، التي يمكن أن تبني المرونة داخل الإنسان ما يتيح له إجادة التعامل في كل موقف بما يناسبه.

وأوضح لـ”العرب” أن الاضطرابات النفسية كلها ترجع إلى أسباب بيولوجية، أما دور البيئة المحيطة فهو تهذيب هذه العوامل البيولوجية، أي أن الإنسان يمكن أن يتعرض لموقف ما فتغير البيئة التكوين البيولوجي له، فيصبح مريضًا نفسيًّا، وإن لم يتغير هذا التكوين فلن يصبح مريضًا، فالمرض النفسي لن يظهر إلا إذا حدث تغير في التكوين البيولوجي للمخ الذي يتمثل في عنصرين رئيسيين، هما كيمياء المخ والوصلات العصبية داخله، واللذان قد يتغيران نتيجة حدث ضخم أو أحداث بسيطة متكررة.

هل ينقرض الإنسان

pp
ما نشهده الآن ربما يكون نهاية عصر الإنسان الذي نعرفه، بمعنى أن يختفي هذا الإنسان ويظهر آخر بشكل مختلف

لا يزال الذكاء الاصطناعي يمثل هاجسًا لدى كثيرين في المستقبل، ولا ينفي الطبيب النفسي نبيل القط ذلك إنما يؤكده، موضحا أن الذكاء الاصطناعي أصبح حاليا بديلا عن الصداقة والطب النفسي، وهناك مخاوف من أن نتحول مستقبلا إلى خدم عنده أكثر من أن يكون هو خادمًا أو مساعدًا لنا، في حال وصوله إلى التفوق على الذكاء الإنساني ليسيطر هو، ولا نعرف ما يمكن أن يفعله بنا.

وقال “إحدى مريضاتي سألتني بخصوص جرعة دوائية معينة فأجبتها، واتضح أنها وجهت نفس السؤال إلى ‘شات جي بي تي’ فأجابها بإجابة أكثر دقة من إجابتي وهذا شيء مذهل.”

ذكرت الطبيبة غادة لبيب مديرة مجموعة “بوك غاردن” للقراء على فيسبوك أن الانتشار الرقمي الذي ينعكس في سيطرة مواقع التواصل على المراهقين خصوصًا يمكن أن تكون له تأثيرات نفسية خطيرة.

واعتبر نبيل القط أنها ليست مجرد تأثيرات نفسية، إنما هي بيولوجية؛ لأن المخ البشري نفسه يتغير، ورجال التسويق عبر السوشيال ميديا يعتبرون أن الثواني التسع الأولى في أي فيديو يجب أن تكون مؤثرة لجذب المتلقي إلى الشراء وإلا سيغادر المقطع المصور إلى شيء آخر، إنها تسع ثوان حاسمة في عملية البيع.

ماذا يمكن أن يحدث مستقبلا في ضوء هذا؟ إنه السؤال الكبير الذي تتعدد حوله الإجابات، استعرض القط بعضها، قائلا: إن البشر ربما لن يستطيعوا استكمال حوار طويل فيما بينهم، والأغاني أصبحت قصيرة بما لا يتعدى ثلاث دقائق أو حتى دقيقة واحدة كما نشاهد على “تيك توك”، بعد أن كنا نجلس للاستماع إلى المطربة أم كلثوم لمدة ساعة أو حتى ليلة كاملة.

أدى ذلك إلى مشاكل كثيرة، أشهرها انتشار قصور الانتباه وفرط الحركة كظاهرة عالمية، ويرى الطبيب النفسي في عيادته الطبية حالات كثيرة في هذا الإطار، ممن لا يستطيعون التركيز على شيء واحد.

ويشير نبيل القط إلى أن ما نشهده الآن ربما يكون نهاية عصر الإنسان بالشكل الذي نعرفه، بمعنى أن يختفي هذا الإنسان، ويظهر آخر بشكل مختلف، فهل يمكن أن ينقرض؟ لا أعرف، لكن من ضمن توقعات علماء البيولوجيا مثلًا أن يحدث التطور بأن يظهر للإنسان مستقبلا جفن ثالث في العين بسبب المشاهدة الدائمة للهواتف المحمولة وما يمكن أن تؤدي إليه من عزلة نفسية أيضًا.

14