التلفزيون الرمضاني: لماذا هو استهلاكي ذو نزعة ربحية

النأي بالتلفزيون العمومي عن منطق الربح والخسارة يرتقي بالمضامين.
السبت 2022/04/23
منتج يشجع على الاستهلاك

في رمضان تصيب التلفزيونات العربية دون استثناء واضح حمى الأرباح والتنافس حول نسب المشاهدة والاستهلاك اللاواعي للمواد المعروضة، وتجعل هذه الحالة المشاهد عرضة لمادة درامية وإعلانية غير هادفة تبث له على مدار الساعة فتنمي لديه الرغبة الاستهلاكية، وللحد من ذلك يدعو بعض الخبراء إلى ضرورة مراجعة المضامين التلفزيونية فيما يقول آخرون إن المشاهد الواعي قادر بدوره على تغيير المضامين الإعلامية.

مازال التلفزيون يحظى بمكانة خاصة لدى العائلات العربية رغم تعاظم دور وسائل التواصل الاجتماعي وتنامي المنصات الرقمية التي غيرت بشكل واضح طرق وأشكال استخدام التلفزيون.

وتتجلى أهمية التلفزيون لدى العائلة العربية بشكل خاص في شهر رمضان حيث تتسابق مختلف المحطات التلفزيونية لـ”حشو” شاشاتها بمضامين يقال حولها الكثير.

ومن أبرز ما يتعرض له التلفزيون الرمضاني وصمُهُ بالرداءة واتهامه بالاستخفاف بأذواق المشاهدين.

ولا يبدو ذلك غريبا بالنظر إلى سلوك المستهلك العربي خلال شهر رمضان الذي يميل نحو الكسل والاسترخاء، وهو سلوك عام يؤثر على استعداداته النفسية والعقلية والجسدية، فتتماهى معه التلفزيونات العربية تكريسا للنزعة الاستهلاكية ولطابع الخمول، الميزتين الأبرز في السلوك الرمضاني.

منتوج ترفيهي

فتحية السعيدي: رمضان يساهم في جعل الفرد كائنا استهلاكيا بامتياز

في البداية لا بد من الاتفاق حول أن التلفزيون الرمضاني هو تلفزيون ترفيهي محض أو يسعى إلى أن يكون كذلك فتغيب عنه البرامج السياسية والاقتصادية والثقافية، وبالتالي يُجرد أفراد المجتمع من أهم حق ديمقراطي ألا وهو التداول في الشأن العام في فضاء عمومي تعددي ومتوازن. فحتى النقاشات “المواطنية” التي تُمارس في المقاهي في سهرات رمضان يدور معظمها حول الإنتاجات الدرامية الرمضانية وأبطالها وبطلاتها، دون التطرق بعمق إلى القضايا التي تطرحها تلك الأعمال، إنْ طرحت قضايا.

أما المنتوج الثقافي في العديد من الشاشات العربية فيُختزل في مجرد متابعة لسهرات رمضان الفنية والترفيهية. بينما تحظى برامج الطبخ باهتمام بالغ من المشاهد الباحث عن ملء البطن ومن أصحاب القنوات التلفزيونية لأنها تمثل عنصر جذب واستقطاب للمُعلنين التجاريين اللاهثين وراء ترويج سلعهم بكل الطرق.

وللمعلنين والقائمين على الشركات التجارية مساحات واسعة في التلفزيون الرمضاني عبر ومضات مطوّلة تقطع الفرجة عن المشاهد.

وترى الباحثة في علم الاجتماع فتحية السعيدي أن النزعة الاستهلاكية هي سمة كافة المجتمعات الحديثة لكنها تبرز في المجتمعات الإسلامية بشكل خاص خلال شهر رمضان.

ومن وجهة نظر علم الاجتماع تضيف السعيدي في تصريح لـ”العرب” أن “رمضان يساهم في جعل الفرد كائنا استهلاكيا بامتياز، خاصة مع تمسك العائلات بالاجتماع وقت الإفطار ومشاهدة التلفزيون معا مما يخلق رغبة في المشاركة في الاستهلاك. وتوفر تلك المشاركة متعة نفسية خاصة لا تحظى بها سائر أشهر السنة الأخرى”.

شادية خذير: الجمهور يساهم في تغيير المضامين وتعديلها عبر التفاعل

وهو ما درسه أصحاب الإعلانات التجارية جيدا كما تقول الباحثة في علم الاجتماع، مستغلين الاستعداد النفسي والبيولوجي للاستهلاك لدى الأفراد. واستشهدت السعيدي بالعديد من الدراسات الاجتماعية التي تبرز أن حجم مصاريف المواطن التونسي مثلا في رمضان يفوق حجم مداخيله بسبب استعداده “الرمضاني” للإنفاق من جهة، وبسبب محاصراته إعلاميا بالمغريات التجارية المحفزة للاستهلاك.

ونلاحظ أن المشاهدين العرب باتوا يتسامرون ويتجاذبون أطراف الحديث حول أمرين رئيسييْن: الهواتف المحمولة والتكنولوجيات الحديثة، والمنتجات الغذائية. والسلعتان يروج لهما تلفزيون رمضان عبر ومضات الدعاية التجارية. وهنا برز خطر الخلط بين المضامين الإعلامية والمضامين التجارية في أذهان المشاهدين. وهو خطر كرسته المقاربة التجارية الاستهلاكية الطاغية على تلفزيون رمضان وزاد في تعميقه السباق المحموم بين القنوات التلفزيونية للاستحواذ على نصيب أوفر من الإعلانات التجارية إلى درجة زالت معها الحدود بين التلفزيونات العمومية والتلفزيونات الخاصة. ففي رمضان تتشابه المضامين الإعلامية والدرامية طمعا في كسب ود المعلنين التجاريين.

وفي تونس مثلا تفطنت الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري (هايكا) -وهي هيئة تعنى بتنظيم المشهد السمعي البصري في تونس- إلى خطورة طغيان الطابع المادي والتجاري على المضامين التلفزيونية في رمضان، وهو أمر حاصر التلفزيون العمومي التونسي وزجّ به في متاهات تجارية ربحية حادت به عن دوره الحقيقي. فمنعت نشر نتائج قياس الجمهور أو ما يسمى بقياس نسب المشاهدة التي تنشرها المؤسسات الخاصة بإجراء تلك العمليات وتنشط بشكل مكثف في رمضان ويتابعها أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب الشركات التجارية عن كثب ليتمكنوا من استثمار العمل الذي يلتف حوله جمهور أكبر ويدججوه بالومضات التجارية.

حماية المضمون

◙ برامج الطبخ تحظى باهتمام بالغ من أصحاب القنوات التلفزيونية لأنها تمثل  عنصر جذب واستقطاب للمُعلنين التجاريين
برامج الطبخ تحظى باهتمام بالغ من أصحاب القنوات التلفزيونية لأنها تمثل  عنصر جذب واستقطاب للمُعلنين التجاريين 

خلقت تلك العملية خلال السنوات الأخيرة في تونس إشكالا حادا أضر حتى بالقواعد الأخلاقية التنافسية بين مختلف المحطات التلفزيونية. ووصل الأمر إلى حد اتهام بعض شركات سبر الآراء وقياس نسب المشاهدة بالتزييف والتوجيه والتحالف مع أطراف ضد أخرى.

ولا يزال الخطر قائما رغم قرار “الهايكا” المتخذ بمناسبة رمضان الجاري؛ حيث ظهرت لوبيات تمارس ضغطا على المنتجين وبعض القنوات تستخدم بعض الإذاعات الخاصة والمواقع الإعلامية الإلكترونية والصفحات الفيسبوكية لتوجيه الرأي العام والتلاعب ببعض الإنتاجات التلفزيونية الرمضانية، تضخيما أو تحقيرا.

وترى المديرة السابقة للقناة الوطنية الثانية بالتلفزيون العمومي التونسي شادية خذير في تصريح لـ”العرب” أن “التلفزيون الرمضاني بصدد الخروج من مأزق النزعة الاستهلاكية التي باتت توجه المضامين الإعلامية الرمضانية مع حدوث تغيير طرأ على نمط الإنتاج في السنوات الثلاث الأخيرة وبروز جيل جديد من المخرجين الحاملين لمشاريع فنية حقيقية”.

وتتابع “قد لمسنا هذا التوجه الساعي للتنصل من اقتصاد السوق في العديد من الدول العربية ذات التقاليد العريقة في الإنتاج التلفزيوني على غرار مصر وسوريا وبدرجة أقل تونس ودول الخليج. وهو توجه نابع من أمر أساسي”.

كما ترى خذير -التي تشغل حاليا منصب رئيسة وحدة البرامج الثقافية بالتلفزيون العمومي التونسي- أنه تم تكذيب مقولة “الجمهور عاوز كده” التي يتعلل بها المنتجون والقائمون على القنوات التلفزيونية. وهي مقولة كذبتها الميديا الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي حيث بات الجمهور جزءا من العملية الإنتاجية ويساهم في تغيير مضامينها وتعديلها عبر ميزة التفاعل وإبداء الرأي ودعوات المقاطعة التي تتيحها له وسائل التواصل الاجتماعي.

خطر الخلط بين المضامين الإعلامية والمضامين التجارية في أذهان المشاهدين كرسته المقاربة التجارية الاستهلاكية الطاغية على تلفزيون رمضان

وتصر خذير على ضرورة اضطلاع الإعلام العمومي بدوره في حماية المضامين الإعلامية والجمهور على حد سواء من خطر إخضاع التلفزيون لمنطق الربح والخسارة المادية عملا بقاعدة العرض والطلب التجارية، خاصة في بلدان تعتمد كثيرا على إنتاجاتها المحلية لتأثيث شبكات برامج محطاتها التلفزيونية على غرار مصر وتونس. وهي نفس البلدان تقريبا التي شهدت تحولات سياسية خلال العشرية الماضية والتي تعتقد أنها نجحت نسبيا في إرساء مؤسسات ديمقراطية لكن يبدو أنها فشلت في إنتاج تلفزيون ديمقراطي يعبر عن تنوع الجمهور وتعدد أذواقه.

وفي النهاية -كما ترى المديرة السابقة بالتلفزيون التونسي- ليس هناك جمهور واحد وإنما هناك جماهير متنوعة. وبالتالي لا يًعقل أن تُقبل كلها على ما تعرضه القنوات التلفزيونية بنفس النهم الاستهلاكي وتذعن للنزعة التجارية الربحية، وإنْ ارتبط الأمر برمضان، شهر الاستهلاك بامتياز.

14