التعليم الموازي في مصر ملاذ خريجين لفظتهم وظائف الحكومة

بيزنس الدروس الخصوصية يفتح شهية العاطلين أمام غياب دور المدارس.
السبت 2022/06/04
الفقراء لا ينجحون

انتشرت ظاهرة الدروس الخصوصية في أغلب دول العالم العربي، وغذاها حرص العائلات على تأمين مستقبل أطفالهم، وفي مصر أصبح التعليم الموازي فرصة لخريجي الجامعات الذين لم يجدوا وظيفة حكومية، ليتحول بعضهم إلى أثرياء يمتصون ميزانية العائلات ليضعوها في جيوبهم، في ظل غض الطرف من قبل الحكومة.

القاهرة – عكست واقعة ضبط خريجة إحدى كليات العلوم في مصر بتهمة العمل في الدروس الخصوصية، وجمع مبالغ مالية ضخمة دون الحصول على ترخيص لمزاولة المهنة، شكل الواقع الذي صار عليه التعليم الموازي في البلاد، بعدما أصبح ملاذ الكثير من الخريجين الذين لفظتهم وظائف الحكومة، ولم يعد أمامهم سوى جني الأرباح من تهافت الأهالي على التعليم الخصوصي.

بلغت شهرة الخريجة المضبوطة بين الطلاب حتى أنها استعانت بفريق من الحراسة الخاصة لتأمين المقار التي تقدم فيها الدروس الخصوصية من شدة الإقبال عليها، رغم كونها ليست معلمة أو حاصلة على ترخيص بمزاولة المهنة، وكل ما في الأمر أنها اخترعت طريقة جديدة للتدريس بشرح المنهج بطريقة سهلة وبسيطة، تقوم على تقديمه للطالب في صورة مسرحية.

وظيفة حرة

أصبح التعليم الموازي في مصر وظيفة حرة للعديد من خريجي الجامعات الذين يجلسون في طابور البطالة، بعدما أغلقت الحكومة باب التوظيف، وبات القطاع الخاص يضع شروطا صارمة أمام الراغبين في العمل، إضافة إلى شح الوظائف بشكل عام، على وقع الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد، في حين تحتل الدروس الخصوصية صدارة إنفاق الأسرة المصرية.

◙ التعليم الموازي يلتهم سنويا قرابة 40 مليار جنيه من ميزانية الأسر المصرية بسبب خلل في المنظومة التعليمية
◙ التعليم الموازي يلتهم سنويا قرابة 40 مليار جنيه من ميزانية الأسر المصرية بسبب خلل في المنظومة التعليمية

ولأن هناك عجزا صارخا في المعلمين بالمدارس، ولم تعد أعدادهم تكفي للتدريس لقرابة 26 مليون طالب، أضحى التعليم الموازي مغريا للخريجين، حيث يبتكر كل منهم طريقة غير تقليدية في شرح المناهج لاستقطاب الطلاب الفارين من المؤسسات التعليمية، إما لكونها فقدت بريقها وقدسيتها عند الأهالي وإما لأن معلمي المدارس لم يعودوا يقومون بالدور المنوط بهم.

وسبق لطارق شوقي، وزير التربية والتعليم، التأكيد أن 70 في المئة من العاملين في التعليم الموازي بمصر ليسوا معلمين أصلا، بل من خريجي كليات يلعب أصحابها على وتر تهافت الأهالي على الدروس الخصوصية، ما يمثل تحديا مضاعفا للدولة في تطبيق نظام تعليم عصري لا يعتمد على الحفظ والتلقين، بل على الفهم والبحث وقياس نواتج التعلم والابتكار والتفكير النقدي.

غض الطرف

توحي استراتيجية الحكومة في التعامل مع الدروس الخصوصية بأنها تتعمد غض الطرف عن التعليم الموازي، إما لأنها تمثل بالنسبة للكثير من العاطلين فرصة لجني المكاسب المادية بشكل يرفع العبء عنها، قبل أن يكون هؤلاء الخريجون قنبلة موقوتة في وجهها، أو لأن هذه السوق توفر المعلم البديل للطالب، طالما لا تمتلك القدرة المالية على تعيين خريجين كمعلمين. وما يعزز هذه الرؤية أن الحكومة تمتلك كل الأدوات والقدرات للقضاء على مراكز الدروس الخصوصية وحظر العمل بمهنة التدريس على غير المعلمين بالمدارس، لكنها لم تفعل ذلك، مع أن هذه المراكز تنتشر في أماكن كثيرة وتعمل بشكل غير شرعي دون أن تعرف وزارة التعليم هوية العاملين فيها أو تخصصاتهم، وتدرك جيدا أنهم يجمعون مبالغ طائلة، لكنها لا تتدخل.

فريسة الدرس الخصوصي

 كرّس عجز المعلمين في المدارس تسليع التعلم المصري وجعل الأهالي فريسة للمدرس الخصوصي الذي أصبح يملي شروطه التعجيزية عليهم، سواء في ما يتعلق بالعائد المادي الذي يحصل عليه في كل محاضرة أو مواعيد الدروس نفسها، إلى درجة أن بعضهم يرفض استقبال طلاب جدد بحجة عدم وجود أماكن خالية في القاعة.

70

في المئة من العاملين في التعليم الموازي يستغلون تهافت الأهالي على الدروس الخصوصية

وعكست ردود الفعل الغاضبة على شبكات التواصل الاجتماعي في مصر من واقعة ضبط خريجة العلوم التي تعمل مدرسة دون ترخيص، حجم ظاهرة العاملين بمهنة التدريس من العاطلين، وكيف أنهم ينظرون إلى هذا الاستهداف على أنه موجه إلى “لقمة عيشهم” التي يتحصلون عليها بعيدا عن خزانة الحكومة، فلا هي وفرت الوظائف لهم، ولا تركتهم يكسبون من الدروس.

واعترف علاء كامل، وهو من خريجي كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، بأنه يمتهن التدريس منذ خمس سنوات دون الحصول على ترخيص من وزارة التعليم، ولديه شعبية في القرية التي يعيش فيها ويتحصل شهريا على مبلغ كبير يكفي حاجة أسرته، والأهم بالنسبة له، أنه لا يدفع ضرائب على ذلك، أو يتعرض للتعنيف من أي مسؤول، كما يحصل في أغلب المؤسسات.

ويعطي علاء الدروس الخصوصية للطلاب في منزله أو ببيوت الطلاب أنفسهم، لكنه عندما يذهب إلى الطالب خصيصا في المنزل، فهو يتحصل على مبلغ مالي مضاعف، كالطبيب الخصوصي للعائلة، وهذه بالنسبة له وظيفة لا يلتزم فيها بتوقيتات محددة، ولا يتهافت على الترقي، أو يتعرض لعقوبات أو خصومات، وهو الوحيد القادر على تحديد راتبه بنهاية كل شهر.

وقال لـ”العرب” إن التدريس الحر بعيدا عن الوظيفة الحكومية لا يحتاج إلى قدرات خارقة، فالمهم أن يكون الخريج ملما بالمنهج الدراسي ويحصل على مجموعة من الدورات التدريبية في مراكز الخدمات التعليمية، وبعدها يعلن عن نفسه كمعلم خصوصي، مضيفا “اللغة الإنجليزية سهل تدريسها، وعائدها المادي كبير، وبالتالي تسقط أي وظيفة حكومية مقيدة للحريات”.

خلل المنظومة

أفواج المراجعة
أفواج المراجعة

يرى مراقبون أن ظاهرة عمل الخريجين في التعليم الموازي من دون خبرة إنما هي انعكاس لخلل عام في الجهاز الإداري للحكومة، فالتخصص الوظيفي يكاد يكون منعدما، فقد تجد حاصلا على ماجستير في التجارة يعمل موظفا بالكهرباء، ومتخرجا من كلية الزراعة مسؤولا عن مؤسسة لا علاقة لها بتخصصه الجامعي، وهكذا أصبحت أغلب الوظائف في مصر، حتى صارت مستباحة.

وبالنظر إلى التعليم الموازي، فهو الأكثر إقبالا من جانب الخريجين، لكونه يلتهم سنويا قرابة 40 مليار جنيه من ميزانية الأسر المصرية، وفق إحصائيات رسمية، ويبرر الكثير من أولياء الأمور اللجوء إلى هذا الخيار بأن معلمي المدارس يتخاذلون في الشرح، وكثافة القاعات الدراسية مرتفعة حتى أصبح الانقطاع عن المؤسسات التعليمية خيارا للعديد من الطلاب.

وأكد كمال مغيث، الخبير بمعهد البحوث التربوية بالقاهرة، أن عمل خريجين في الدروس الخصوصية انعكاس واضح لخلل المنظومة التعليمية برمتها، وهذه مسؤولية تتحمل وزارة التربية والتعليم الجزء الكبير منها، لأنها لم تخطط بجدية لعودة الاعتبار إلى المدارس، وتساهلت في عجز المعلمين واستعانت بخريجين للعمل كمعلمين متطوعين دون راتب، أو حتى خبرة وتدريب.

وساعدت الحكومة على رواج الدروس الخصوصية بشكل غير مباشر، عندما قررت فتح باب التطوع أمام الخريجين للعمل كمعلمين بالمدارس لسد العجز في المدرسين، حيث بلغ قرابة 320 ألف معلم، وتقدم عشرات الآلاف من خريجي الجامعات للعمل، رغم أنهم يدركون جيدا عدم حصولهم على راتب بنهاية الشهر، لكنهم وجدوا في ذلك وسيلة للترويج لأنفسهم بين الطلاب.

ولم تكن المدارس تشترط الخبرة ولا الكفاءة في المتقدم للعمل كمعلم متطوع، ومثّل هذا الأمر فرصة ثمينة للعديد من الخريجين، فهم لا يبحثون عن راتب هزيل من المدرسة لن يتجاوز ألف جنيه (نحو 45 دولارا)، بقدر ما يهدفون إلى استقطاب الباحثين عن الدروس الخصوصية، وبالتالي حصل هؤلاء بشكل شرعي على لقب معلم، رغم أن الحكومة رفضت منحهم شهادات خبرة.

من هؤلاء سعيد حمدي، شاب تخرج قبل ثلاث سنوات من كلية التربية جامعة دمنهور (شمال القاهرة)، وكان ضمن طابور العاطلين، وقال “لا أنكر أنني تقدمت للعمل كمعلم متطوع، حتى يتعاقد معي أولياء الأمور لإعطاء دروس خصوصية لأولادهم، وهو السبب الرئيسي لالتحاقي بكلية التربية من الأساس”.

معلمون أثرياء

هل يشتري المال الشهائد
هل يشتري المال الشهائد

 شجع تحول الكثير من معلمي الدروس الخصوصية إلى أثرياء الكثير من الخريجين على قبول العمل التطوعي كمدخل للّحاق بفئة الأغنياء، وإن لم يتحقق ذلك سريعا، فيكفي تكوين علاقات اجتماعية مع أسر مرموقة لها نفوذ، مثل الضباط والقضاة والأطباء.

وأكد سعيد أن الحكومة تحاول إقناع الناس بأنها تبحث عن حل لأزمة نقص المعلمين بالتعاقد مع متطوعين، ونحن نحاول إقناع الحكومة بأننا نريد مشاركتها في ذلك، لكن في الحقيقة لا أحد يعمل من دون عائد لأن هذا جنون، وإن لم يتحقق المقابل بالمال سوف يتحقق ببناء علاقات مع الكبار.

وأصبحت الدروس الخصوصية في مصر ثقافة عند كل الأسر دون استثناء، سواء ألحقوا أبناءهم في مدارس حكومية أو حتى دولية، حتى أصبح هناك معلمون يمتلكون عقارات وأراضي وسيارات فارهة من وراء هذا “البيزنس”، وعندهم تسعيرة خاصة بهم عن كل حصة دراسية، وأغلب هؤلاء استقالوا من وزارة التعليم للتفرغ إلى التعليم الموازي ذي المكاسب الضخمة.

وترفض الكثير من الفئات الاجتماعية إرسال أبنائها إلى مراكز الدروس الخصوصية، وتفضل أن يأتي المعلم إلى المنزل، لكن الأسماء المعروفة في حقل التدريس لا تفعل، وبالتالي تلجأ هذه الشريحة إلى التعاقد مع معلمي الصف الثاني، مثل الخريجين من الكليات المرتبطة بالمناهج، كالتربية والآداب والعلوم والألسن، لأن الطلب عليهم أقل من المخضرمين في المهنة.

وأضاف مغيث لـ”العرب” أن الأهالي أصبحوا فريسة للتعليم الموازي لأن نظيره الرسمي افتقد بريقه، وكل أب يبحث لابنه عن وسيلة للتحصيل العلمي، وللأسف أصبح هناك خريجون يتعاملون مع الدروس كوظيفة، بغض النظر عن مدى الملاءمة لها من عدمه، ما سهل دخول الكثير من الهواة إلى المهنة كباحثين عن لقمة عيش في الظروف الاقتصادية الصعبة، وهذا خطأ بالغ الخطورة.

ولا تكف وزارة التعليم عن محاولة إقناع الشارع بأن النظام الجديد سوف يقضي على الدروس الخصوصية، التي تلتهم النسبة الأكبر من دخل الأسر شهريا، وهو المبرر الذي لم يعد مقنعا للناس، لأن الواقع على الأرض أثبت أن التعليم الموازي هو السبيل الوحيد تقريبا أمام الطلاب للنجاح في المنظومة الجديدة، في حين ترد الوزارة بأن الأهالي سبب الظاهرة، ما يوحي بأن الوضع القائم سيستمر لسنوات من دون أن تتحرك الحكومة لاتخاذ قرارات صارمة تعيد للتعليم الرسمي اعتباره.

تطوع بلا خبرة
تطوع بلا خبرة

18