التعبيرية التجريدية أول غارة أميركية على القلعة التشكيلية الأوروبية الحصينة

واجه الفن العديد من التحديات على مر العصور، منها الحروب وحركات الهجرة الجماعية وحتى الثورة التكنولوجية، وهي كلها تحديات لم تنجح في القضاء عليه بل غيرت شكله ونجحت في نقله إلى مستويات متقدمة وزادت من توسعه جغرافيا. وهذا ما يناقشه كتاب “الفن المعاصر أساليبه واتجاهاته” للمؤلفين بلاسم محمد وسلام جبار.
شهد الفن التشكيلي المعاصر تحوّلات على عدة مستويات في المفهوم والتقنية، انطلاقا من التقنيات الحديثة مثل الكاميرا وظهورها، حيث أثّر التصوير الفوتوغرافي على مهارات الفنان التشكيلي، فأصبح الفنان بدلاً من أن يرسم يأخذ في ابتكار الفن من خلال العدسات والبحث عن أنماط مختلفة ومخالفة، وانتهاء بتأثيرات الوسائط الرقمية والذكاء الاصطناعي.
ويأتي كتاب “الفن المعاصر أساليبه واتجاهاته” لأستاذي الفن التشكيلي د. بلاسم محمد ود. سلام جبار، تسليطا للضوء على اتجاهات الفن التشكيلي وأساليبه كاشفا عن محاورها الفلسفية وعلاقاتها بالتطورات الهائلة في التقنيات التكنولوجية.
هزة عنيفة
يرى المؤلفان أنه منذ إطلالة القرن العشرين وظهور الكاميرا أصيب الرسم بهزة عنيفة، فقد نافست الصورة الفوتوغرافية مهارة الفنان في محاكاة الواقع، فتحول ذهن الفنان إلى عين ترى الواقع بعدسات جديدة للبحث عن أنماط مخالفة. فظهر “كوخ” الذي يرى الصورة التعبيرية وظهر “ماتيس” الذي يرى الصورة الزخرفية، و”غوغان” في البقعية، و”سيزان” في الهندسية. وهذه الرؤى المغايرة كانت نتيجة متقدمة لاكتشافات الانطباعية.
ومن هذا المنطلق كان لمخرجات الصورة الفنية التي تناوبت في الظهور بين التشخص والتجريد عبر المدارس الفنية المتلاحقة، تحولاتها التي ارتبطت بالتطورات العلمية كالاكتشافات الفيزيائية للضوء، الانطباعية والتنقيطية، والاعتداد بالذات والبحوث النفسية التي أثرت على ظهور التعبيرية والسريالية، أما التقنية فهي التي فتحت الآمال نحو مستقبل واعد بظهور عصر الآلة ونتاجاتها الحديثة المتمثلة بالطائرة والسيارة، وأدت إلى ظهور المدرسة المستقبلية والتي ما لبثت لتكون “السيارة المزمجرة أجمل من انتصار ساموتراس”. والتأكيد المبالغ على الآلية والديناميكية واعتماد السياق الحركي في أعمالها.
ويشير أستاذا الفن التشكيلي إلى أنه أمام كل التحولات ظل اعتماد التجديد في اللوحة الفنية على تغيرات في عناصر التكوين وتبادل أدوار الهيمنة كأن تكون للون أو للخط أو الشكل ككل أو في الملمس، وهذا ناتج عن الاعتماد على وسائط محددة وطرائق عرض ثابتة. ويبقى على مفهوم ثابت ومستقل لفن الرسم.
ويعلن الفن هنا عن مدارس أسسها وعن تمرد فنانين بدءا من الانطباعية مع “مانيه” و”مونيه”، والتعبيرية مع “فان فان كوخ”، ومؤسس الوحشية “ماتيس” وعمّدها “بيكاسو” و”براك”. بينما تحتفي التجريدية بمؤسسيها “كاندنسكي” و”موندريان”، أما السريالية فتحتفي بـ”دالي”، والميتافيزيقية بـ “الجريكو”، والمستقبلية بـ”سيفيريني” وغيرهم من الرواد الذين أعلنوا عن ذواتهم داخل سياق ومعايير خاصة بكل مدرسة يمكن الإشارة إليها من خلالهم ومعرفة مخرجاتها التشكيلية التي تتحول إلى نموذج عام يمكن قراءة خارطته التي يتبعها كل الفنانين المنتمين إلى تلك الحركة الفنية مع وجود اختلافات طفيفة.
كان فنانو الانطباعية على اختلاف أساليبهم الفردية يلتقون بصورة عامة في تسجيل انطباعات اللحظة الزائلة، أما التعبيرية فتهتم بتسجيل المشاعر الشخصية، والسريالية تبحث في العقل الباطن والمستقبلية في تبني السمات الآلية وإظهار الحركة والزمن.
وكان الاقتحام الأول عند ظهور الدادائية، حيث أدخلت تقنية الإلصاق والتركيب الأساسية في العمل الفني لإضفاء طابع الحدث اليومي. وهذا الاقتحام للصورة الفوتوغرافية والمواد الجاهزة وورق الجرائد والمواد المهملة كان له الأثر في غزو الفن لمناطق مألوفة وغير مألوفة.
ويتابع الأستاذان أنه مع الدادئية كانت بداية التغيير وتحديدا مع “دوشامب” وحدثت خلخلة مؤثرة في المسار الفني أثمرت في فنون ما بعد الحداثة، والتي قد تفوق ما أحدثته الكاميرا الفوتوغرافية على فنون الحداثة. وذلك لأنه استبدل اللوحة والزيت بالشيء الجاهز ليرقى إلى مستوى الأعمال الفنية المعروضة في المتاحف العالمية، إضافة إلى إحداث صدمة وهزة جراء سخريته من الرموز الاجتماعية المقدسة.
ولم يقتصر الاعتداء على الشكل بل تعدى إلى نسف المضمون والموضوع والتقنية، والخامة أحدثت هزة عنيفة قوضت كل الأنظمة القديمة، وأحدثت التحول النسقي الأكبر. فتح المجال لتغير الوسائط ووسائل العرض، وجعل الفن التشكيلي في تقابل مع الفنون الأخرى وأحدث تغيرا في التاريخ الفني مهد لتحويل العمل الفني من لوحة ثابتة إلى مجموعة كبيرة من الفنون لا تقتصر على الرسم وحده بل مجاورات معرفية مختلفة.
ولم يقتصر أسلوب الهدم والرفض على الأعمال الفنية فقط، بل سعى لأن يصبح كل إنسان فنانا طالما يعبر عن ذاته باسم الفن.
ويؤكد المؤلفان أنه مع عصر ما بعد الحداثة ومجيء ثورة الاتصالات والمعلومات وتداخل الأفكار والأيديولوجيات يصبح تصنيف الفن وتوقع مخرجاته أكثر صعوبة. نتج عنه تعليب الثقافة وتحويلها إلى سلعة يسهل تداولها واحتكامها إلى آليات السوق في العرض والطلب. ومن ثم فتح المجال لهيمنة عصر الصورة في ثقافة جديدة ولدت نسقا مغايرا ناتجا عن إلغاء الفوارق بين الثقافة الشعبية وثقافة النخبة، التي تمازجت مع ما أضافته التغيرات الصناعية والاقتصادية.
للسبرانية الأثر المهم في تحرير العمل الفني من انفعالات الفنان، لتصبح الآلة هي الوسيلة التعبيرية
وكما أن لثورة الاتصالات والمعلوماتية تأثيرا على السياسة والاقتصاد، فإن الإنترنت ونظام الصورة الرقمية والشاشة كان لها تأثير فعال على تغير الوسائط والوسائل الفنية في عصر الموجة الثالثة. فهذا الفن يمتلك أنظمة نسقية تميزه عن فنون الحداثة ناتجة عن التحولات الجغرافية والمعرفية والأدائية التي أحدثت تبدلات في المراكز وسحبت البساط من أمجاد أوروبا التشكيلية لتجد مسوغات جديدة وإغراءات في القارة الأميركية المتمثلة بالسلطة والاقتصاد والنفعية تؤهلها لتبوّؤ مراكز اتصالية وتواصلية، وكان الفن هو عنوان تلك السياسة المضمرة والوجه الدعائي للرفاهية الموعودة.
ويلفت المؤلفان إلى أن عبثية الحروب وهروب الفنانين من مختلف الجنسيات لم يعطيا نتائج سلبية في القضاء على الفن، بل ساهما في انتقال موقعه الجغرافي وإنشاء قاعدة رصينة جديدة استندت عليها وترتبط بأفكار عصر ما بعد الحداثة كانفتاح النهايات وتشظي المراكز والآنية والفعل.
والصدفة ألقت بظلالها على العملية الفنية التي صارت بحثا متواصلا في تلك المفاهيم لتجد نتائج في الأداءات المختلفة والتقنيات المتاحة والخامات الحديثة، وأحدثت تغيرات شكلية في الصورة على حساب المضمون، وساهمت في تراجع سلطة اللوحة السردية أمام هيمنة اللاشكلية وإعلان التعبيرية التجريدية لتكون الناطق الرسمي للبراغماتية الأميركية التي حققتها من جراء توحيد الجنسيات المغتربة وتكوين موقع كوني صغير من كل دول العالم.
وتكون ثقافة الصورة في هذه اللحظة التاريخية، هي ثقافة العولمة، ففي خطاب الصورة تختبئ قيم العولمة التي يراد تسويقها إلى الآخر، في أيّ بقعة من العالم. فأصبحت الولايات المتحدة أرض الأحلام لكل فنان بعد أن أضحت التعبيرية التجريدية هي أول غارة أميركية على القلعة الأوروبية الحصينة. والتي أصبحت قوة اقتصادية ساهمت في ترسيخ قوانين لصالح الفن والفنان الذي لم يعد يعاني مثلما عانى سيزان وغوغان وفان جوخ، بل ساعد على تحول تاجر اللوحات إلى مؤسسة ربحية تدير أعمال الفنان وتساهم في تداولية أعماله الفنية وإيصالها إلى كل أطراف القرية الكونية.
بداية التحرر

يرى المؤلفان أنه رغم تلك الأداءات شديدة التباين بين فناني التعبيرية التجريدية إلا أن مفهوم الفن لم يبتعد عن دائرة تخصصه، ومن هؤلاء الفنانين فرانك ستيلا الذي أدخل النحاس والألمنيوم وتقنيات النحت والغرافيك في أعماله. حيث تلاشت الجدران الفاصلة بين الفنون التشكيلية.
من هنا كانت الصدمة والتشظي والانفتاح بداية التحرر الذي ساعد على تقويض الأفكار وإحداث الإزاحة وما رافقها من استبدال جذري للأنظمة الشكلية والتقنيات والمواد المستخدمة نتجت عن استيعاب لمفاهيم كانت متأرجحة في المجتمع واستقرارها.
وبهذا لم تعد التقاليد الدينية أو الاجتماعية هي القوة المسيطرة في عالم اليوم، بل أضحى الأمر موكولا في ذلك إلى وسائل الإعلام والتقنية والأسواق. ويمكن هنا أن يعرّف العمل الفني ما بعد الحداثي بأنه لعوب، ساخر من الذات، اعتراضي على التقاليد السائدة، وما ظاهره المبعثر إلاّ تعبير عن الرفض لكل أشكال تاريخ الفن، وعبر جمالية لا تتورع عن إظهار ما هو قبيح ونافر.
عبثية الحروب وهروب الفنانين لم يعطيا نتائج سلبية في القضاء على الفن، بل ساهما في انتقال موقعه الجغرافي
يقول المؤلفان إن للسبرانية الأثر المهم في تحرير العمل الفني من انفعالات الفنان، لتصبح الآلة هي الوسيلة التعبيرية، ليتوجه هذا الفن إلى نمطين من التعبير تربط بينهما منهجية واحدة هما “البنية المبرمجة، والصورة المتبدلة حركيا”.
الوسيلتان تقودان كما يقول “هوفستاتر” إلى الأطراف الحدودية للفن، إلى حدود ما لم يعد فنانا” كما أن السبرانية أعطت القيادة إلى المتلقي لما لها من طابع استعراضي وقدرة على إثارته وكسر توقعه من خلال إدخال المتلقي كمشارك فعال في العمل الفني نتيجة الانعكاسات والتوليفات الصوتية المتولدة من وعيه. ليكون الفن السبراني فعلا بصريا تمتزج فيه الحركة والصوت والضوء في الفضاء ويزيح مفهوم اللوحة والجدار أمام حضور الآلة.
ومع النزوح العولمي واتحاد الإلكترونيات والحواسيب في إمبراطورية شبكة اتصالية متكاملة، لتمثل نظام عصبي كوني يصل إلى أبعد نقطة من العالم، صار لزاما إيجاد نظم مغايرة وأساليب جديدة من التواصل يلغيان الحدود الجغرافية وينفتحان نحو المجال السايبري الإلكتروني لتحدث تحولات كبرى في الثقافة الإنسانية، كونه المؤثر على المفاهيم المعاصرة، والتي أثرت بدورها على العلاقات الاجتماعية. ومن شأنها إحداث تغيرات في الوعي الفكري والاجتماعي والسياسي والفني.
ويلاحظان أنه مع ثورة الاتصالات الرقمية وجد الفن في بيئة الحاسوب والإنترنت مبررات لظهور أساليب فنية جديدة تنبثق منها وتستجيب لأنظمتها وتستعير فضاءها للانتقال من أماكن العرض الجغرافية نحو المجالات السايبرية ليخاطب عن طريق الصورة ثقافات ولغات مختلفة.
فحاولت الفنون الإعلامية إيجاد نماذج افتراضية مبتعدة عن كل ما هو موجود بالخط التاريخي الفني، وخلق معادلات تشكيلية رقمية تفرض نفسها على التشكيل وتؤثر على إحداث التحول النسقي من خلال التحرر من المادي والملموس والانفتاح نحو المرئي والمسموع، بتوظيف وسائط جديدة قادرة على الخطاب والتداول والتواصل.
وأصبح بالإمكان تذليل الثقافة في قطع وأجزاء، وإرسالها خلال الأوساط الإلكترونية لتنتشر عبر مسافات كبيرة، جامعة حشود الناس في أنواع زائفة من المتع المشتركة، التي كانت رغم افتقادها أكثر إغراء وتسلية، وأصبحت الفنون المنتجة محليا في موضوع بالغ الصعوبة في منافستها لأصناف الفنون المولدة إلكترونيا، فظهرت من ثقافة عصر التواصل مسميات جديدة ترتبط بالحاسوب والإنترنت ومنها: فن الحاسوب وفن الإنترنت وفن التليماتك، والفن التفاعلي وغيرها من الحركات التي انبثقت من الحاسوب واستخدمت الوسائط الإعلامية واتخذت من الواقع الافتراضي واقعا حقيقيا يمكنها التواصل والبقاء من خلاله.
وكانت التكنولوجيا الإعلامية هي الدافع على خلق إمكانات تنظيمية تعيد قراءة العناصر التشكيلية. وهي الموجهة لما اكتسبه الفنان من خبرة في المجال السايبري لإيجاد خطاب رقمي يستحدث حركات فنية ومناهج نقدية، قادرة على اجتذاب جمهور المتلقين المنبهرين والمهتمين بملاحقة أحدث التقنيات.
يشار إلى أن الكتاب يتناول بالنقد والتحليل وبشكل تفصيلي أبرز التحولات التي طالت الفن التشكيلي بدءا من التعبيرية التجريدية، الفن الشعبي، الفن المفاهيمي، الفن البصري، الفن الغرافيتي، فن الفيديو، فن الجسد، فن الوشم، فن الأرض، الواقعية الجديدة، فن الشارع، فن الشاشة، والحضور الفوتوغرافي، وانتهاء بإلقاء الضوء على الحركات الفنية التي ارتبطت بالحاسوب وشبكة الإنترنت والذكاء الاصطناعي ومنها: الفن الحسابي وفن النمط الهندسي وفن الحاسوب والفن الرقمي، والفن البرامجي، وفن الإنترنت، وفن التليماتيك، والفن التفاعلي، والفن التوليدي، والفن الديناميكي، وفن الوسائط المتعددة، والفن الافتراضي، والفن التطويري، والفن الوراثي، والفن العضوي.