التعايش بين العقائد ينطلق من المناهج التعليمية وليس المؤسسات الدينية

في مواجهة التطرف وخطابات الكراهية داخل المجتمعات، تبدو المناهج التعليمية أقصر الطرق لمواجهة هذه الظواهر التي تغزو عددا من البلدان، إذ أن إيكال مهمة نبذ التطرف للمؤسسات الدينية دون سواها رهان قد لا يأتي بالنتائج المرجوة.
القاهرة- عكس اتفاق مجموعة من ممثلي دور الإفتاء حول العالم في القاهرة، حتمية تضمين المناهج التعليمية بقيم التسامح والتعايش السلمي، كمدخل لتنشئة الأجيال الجديدة على تلك الثقافة، وأكد أنه مهما كانت هناك خطوات إيجابية من جانب المؤسسات الدينية في هذا الملف من دون استعانة بالمناهج الدراسية، سيكون من الصعب على أي مجتمع تطبيق ونشر ثقافة قيم المواطنة وقبول الآخر.
وجاءت التوصية الأهم خلال مؤتمر “الفتوى والبناء الأخلاقي في عالم متسارع” الذي نظمته الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم وعُقد بالقاهرة أخيرا، أن تقوم المؤسسات التعليمية بتكثيف جهودها لنشر ثقافة الحوار والتفاهم بين الأديان، وتعزيز التعايش، وتضمين مناهجها بمواد تعليمية عصرية تنشر ثقافة الحوار.
واتفق المجتمعون على أن تضمين المناهج بقيم احترام الآخر والتسامح معه، بغض النظر عن الانتماء العقائدي، ليس مهمة صعبة، شريطة توافر الإرادة ونقل الأجيال الصاعدة من ثقافة النزاعات الطائفية والمذهبية إلى السلام والتعددية والحوار، وتنشئة الصغار على أن البعد الديني لأي عقيدة هو جزء من باقي العقائد داخل المجتمع.
ومشكلة غياب التعايش لها جذور متشعبة ولا ترتبط بالدين فحسب، لكنها تتعلق بنمط التربية ذاته، سواء أكانت التربية الأسرية أو في محيط البيئة السكانية، وهو ما ينتقل بالتبعية إلى طبيعة التعامل الحياتي، ولا يتعلق التسامح بجانب معين، فإما أن يكون مع الجميع، وفي كل شيء، أو يصبح الشخص متشددا تجاه الحياة عموما.
وما لم يتم تأسيس النشء وفقا لتربية مرنة وبلا تشدد، فإن أي مؤسسة تعليمية ستعاني صعوبات بالغة في التربية القائمة على التسامح الحقيقي، خاصة إذا كانت لا تقدم مناهج وطنية عصرية تعلّم طلابها أن التنشئة السوية لها علاقة بالقواسم المشتركة التي تجمع أصحاب الديانات المختلفة، ومصدر تماسك المجتمع وقوته.
وحذر باحثون شاركوا في مؤتمر الإفتاء بالقاهرة من خطورة التراخي في مواجهة الجماعات الدينية التي يستهويها غياب التنشئة الدينية المبنية على التسامح، لأن ذلك يكرس الصراعات التي تنتج عنها خصومات مجتمعية، يغيب فيها الاحترام المتبادل المبني على قيم وتقاليد إنسانية وموروثات وثوابت مشتركة بين المواطنين.
وذهب هؤلاء الباحثون إلى إمكانية الاستفادة من المناهج التعليمية لتكريس التعايش بين أصحاب العقائد، عبر الاستفادة من الفجوة الفكرية والثقافية بين الأجيال المختلفة حول مفهوم المواطنة والتجانس وقبول الآخر ويميل المراهقون والشباب لإبعاد الدين عن التجانس بين مواطني البلد الواحد عكس من تربوا على يد الجماعات الدينية.
وزرعت بعض التيارات الدينية، الإسلامية أو المسيحية، في أذهان أنصارها أن كل تجانس بين أصحاب العقيدتين يقود إلى تدمير الهوية الوطنية، أما الفئات الشبابية فترى أن التلاحم بين العقائد بداية لإنتاج مجتمع متحضر ومتسامح، وهي النقطة التي يمكن التأسيس عليها من خلال مناهج تعليمية وطنية تغذي تلك المفاهيم.
وتزداد قيمة المناهج الوطنية التي تؤسس لنشر ثقافة التسامح وقبول الآخر، كلما كانت المؤسسات الدينية متراخية عن القيام بدورها في تجديد الخطاب الديني ونبذ التطرف والتشدد في المجتمع والإخفاق في وضع حد لتأثير التيارات المتشددة على عقول الناس، وهنا تقوم المؤسسات التعليمية بتكريس احترام الآخر ووقف التمييز والعنصرية من الصغر ويكبروا على ذلك.
ويرى مراقبون أن الوصول إلى جيل واعِ ومثقف ومتحضر يتطلب من أي حكومة أن تتدخل وتتولى بنفسها مهمة نشر المواطنة في المجتمع بدلا من المؤسسات الدينية، بحيث يتم البدء من المدرسة، ويصبح التعليم مؤسسًا لعلاقات أكثر إنسانية، طالما أن هناك تيارات اعتادت استثمار الثقافات القديمة، وارتفاع منسوب الأمية المجتمعية، لتوسيع الهوة بين أصحاب العقائد.
وإذا تحلت الحكومات العربية بشجاعة الإقدام على تلك الخطوة سيكون من السهل عليها استقطاب الأجيال الجديدة بعيدا عن بناء ثقافتهم الدينية من توارث الأفكار المغلوطة حول أبجديات العلاقات الإنسانية، بحيث يكون هناك قوام جديد للمجتمع، يرتكز على المواطنة وبناء علاقات اجتماعية وفق مبادئ بعيدة عن الانتماء العقائدي.
ويشير البعض من رجال الفتوى إلى أن التشدد الفكري تجاه العقيدة في بعض المجتمعات تأسس على أن الدين هو المتحكم في علاقات الناس ببعضها، ما سمح لتيارات متطرفة أن تجد لنفسها مساحة بين الأفراد لتكريس الفرقة بينهم، ومن الصعب حلحلة هذا الفكر في غياب التعامل مع الدين كمفردة دون أن يكون الأساس الذي تُبنى عليه العلاقات الاجتماعية.
والمشكلة أن تغيير ثقافة الكبار داخل أي مجتمع تجاه تلك القضية قد يأخذ وقتا طويلا، وربما لن تكون النتائج إيجابية، لأن من تربى على شيء، قد يتخذ منه دستورا يبني عليه مسار حياته، وهنا تأتي قيمة المؤسسة التعليمية التي تحتضن الشباب لتتولى مهمة تغيير النظرة تجاه الانتماء العقائدي، ووقف التمييز على أساس الدين.
ويتفقون متخصصون في شؤون الأديان أن الريبة تجاه بعض العقائد في أي مجتمع تأسست على جهل الأفراد بما تتضمنه كل ديانة من قيم وتعاليم إنسانية وقبول للآخر وتعايش غير مشروط، ما دفع أصحاب كل عقيدة أن يغلقوا على أنفسهم أبوابا يصعب اختراقها، حتى صار كل منهم لا يعرف الكثير عن دين الآخر.
وترتب عن التباعد والانغلاق واتساع الهوة أن كل صاحب عقيدة أصبح يرى أنها المثالية، ومن يعتقد عكس ذلك فهو “علماني أو ملحد أو دخيل على المجتمع”، مع أن جميع الأديان السماوية تقريبا تدعو للتسامح والتآخي والتلاحم والرحمة، لكن مع استمرار الجهل بتلك القيم وعدم تطرق المناهج التعليمية لها غاب التعايش.
ولم تكن مناهج التربية الدينية في بعض الدول العربية بعيدة عن تغذية تلك الأفكار الرجعية داخل المجتمع، وليس أدل على ذلك من فصل الطلاب المسلمين عن المسيحيين أثناء تدريس مادة الدين في الكثير من المدارس المصرية، وشب تلاميذ كل ديانة على فكرة العُزلة حتى انتقلت لحياتهم الشخصية بحجة أنهما مختلفان في العقيدة.
تضمين قيم التسامح في المناهج التعليمية ينقل الأجيال من ثقافة النزاعات الطائفية والمذهبية إلى ثقافة التعددية والحوار
ومع كل مرة تطرح فيها فكرة لإقرار منهج تعليمي وطني يكرس التعايش وقبوله دون نظر إلى الديانة، يتبنى متشددون حشد الرأي العام لدحض التحرك في مهده. ولأن بعض الأنظمة العربية لا يعنيها سوى الاستقرار وعدم إثارة قضايا جدلية يتم التراجع، والاستمرار في إسناد الملف لمؤسسات دينية اعتادت التعامل معه بحذر.
وتظل الإشكالية الرئيسية أن هناك فئات لا تقبل مجرد الحديث عن إعادة النظر في المناهج الدينية أو توحيدها بشكل وطني وإنساني، بعيدا عن كون هؤلاء ملتزمين دينيا أم لا، لكنهم يعتبرون مجرد الخطوة استهدافا لدين بعينه، وهي معضلة عجزت بعض الحكومات العربية عن تجاوزها بأقل الخسائر السياسية والاجتماعية.
وقال محمد أبوحامد البرلماني المصري السابق والباحث في شؤون العقائد إن تكريس التعايش بين أصحاب الديانات ليس مهمة مستحيلة، المهم تثقيف وتوعية المجتمع تجاه مزايا الخطوة ذاتها، كي لا يتم تصوير الأمر على أنه دعوة للتحرر الديني، لأن ذلك يغذي التحريض ضد أي عمل من شأنه التقارب بين العقائد على أساس إنساني.
وأضاف لـ “العرب” أن تثقيف الأجيال الصاعدة في أيّ مجتمع بما تتضمنه الديانات الأخرى من قيم نبيلة وعظيمة، كفيل بالتعايش السلمي والقضاء على فكرة الإقصاء، وبناء علاقات مجتمعية يصعب اختراقها من جانب أية تيارات متطرفة، بحيث يَنْشَأوا على أفكار جديدة متحضرة وعصرية ومغايرة لتلك التي تربى عليها الآباء والأجداد.
ولفت إلى أن المناهج التعليمية أقصر الطرق لنبذ العنصرية والفرقة والانسجام والتلاحم بين عناصر المجتمع، لأن الخطاب الديني تقليدي، ولن ينجح وحده في مهمة نشر ثقافة التسامح والتعايش، والميزة أن الأجيال الصاعدة أصبحت أكثر وعيا بأساسيات المواطنة وهو ما يجب البناء عليه من الصغر داخل المؤسسات التعليمية.
ويدعم كثيرون هذه الرؤية من منطلق أن شباب اليوم باتوا أكثر رفضا لتصبح حياتهم أسيرة لتوجيهات دينية ضيقة، وعندما يتعلم الصغار والمراهقون تعاليم الأديان الأخرى وما تتضمنه من قيم نبيلة يكبرون ولديهم قناعة بأن العقائد بريئة من الكراهية.