التطرف يعمق البون في المتوسط

محاربة الإرهاب في تونس تحتاج اهتماما سياسيا وليس أمنيا وعسكريا فقط.
الخميس 2021/05/06
ظاهرة التطرف تمس التونسيين في حاضرهم ومستقبلهم

وجد التونسيون أنفسهم مجددا خلال الأيام الأخيرة وجها لوجه مع تورط متطرف تونسي في عملية إرهابية. هذه المرة خلال هجوم ذهبت ضحيته موظفة في الشرطة الفرنسية قرب باريس.

كالعادة أيضا تلت العملية الإرهابية تفاعلات وتساؤلات في فرنسا وتونس.

تزامنت ردود الفعل والمبادرات الرسمية وغير الرسمية ضد الإرهاب والتطرف في فرنسا مع جدل حاد أثاره توقيع عشرين جنرالا متقاعدا والمئات من الضباط السامين السابقين على عريضة نشرتها مجلة “فالور زاكتيوال” اليمينية.

قال أصحاب العريضة إن “العديد من الأخطار القاتلة تهدد فرنسا” وقد تؤدي إلى “تفكك الدولة” أو إلى “الحرب الأهلية” إذا لم تتصد السلطات لتنامي العنف وخروج مناطق من البلاد من تحت سيطرة الدولة وخاصة بفعل تأثير “الإسلاميين” ومن أسمتهم “بجحافل الضواحي”، في إشارة إلى المهاجرين المقيمين في الأحياء العمالية حول المدن وخاصة باريس.

احتوت العريضة على تهديد مبطن بتدخل العسكريين في الحياة السياسية الفرنسية. وقال العسكريون السابقون الممضون إنهم “مستعدون لمساعدة السياسيين” على “حماية الأمة” (الفرنسية)، ونبهوا إلى أن “التراخي سيؤدي إلى الانفجار وإلى تدخل رفاقنا الموجودين في الخدمة النشيطة في مهمة خطرة تهدف لحماية قيمنا الحضارية والدفاع عن مواطنينا”.

كلام أصحاب العريضة رغم تنديد اليسار به لقي تجاوبا أوسع من دوائر أقصى اليمين الشعبوي في فرنسا، وممثلته الأولى مارين لوبان زعيمة حزب التجمع الوطني التي دعت قدماء العسكريين إلى الالتحاق بحركتها. شمل التجاوب ما لا يقل عن 58 في المئة من الرأي العام أعربوا عن مساندتهم للعريضة، حسب عملية لسبر الآراء. حوالي نصف المستجوبين لم يروا مانعا في تدخل الجيش في حفظ النظام سواء بموافقة السلطات المدنية أو دونها.

التهديد بنزول الجيش إلى معترك السياسة خلق من جهة أخرى تساؤلات لدى الأطراف التونسية المتابعة للنقاش السياسي في فرنسا. إذا كانت بلاد راسخة في التقاليد الديمقراطية مثل فرنسا مازالت تتجاذبها هواجس الخوف والحاجة إلى الأمن، ولو عبر تجاوز كل الخطوط الحمراء للدولة المدنية، فكيف الحال بالنسبة إلى بلاد مثل تونس تجربتها الديمقراطية أقصر بكثير وأقل رسوخا بأشواط كبيرة من فرنسا؟

ولكن التساؤل الأكثر إلحاحا على المدى القريب يتعلق بالدور الذي يمكن أن تلعبه الشعبوية اليمينية في الانتخابات الفرنسية الرئاسية والتشريعية القادمة المقرر تنظيمها بعد سنة من الآن.

سيكون أفضل مؤشر على بداية النجاح في تصحيح المسار أن تصبح التيارات الشعبوية في تونس سندا فاعلا في مقاومة التطرف وإدانة مرتكبيه، وتتوقف عن محاولة توظيف الظاهرة وتشكيل الخارطة الدبلوماسية للبلاد حسب مزاجها

وهذه الشعبوية تنبني على توسيع الهوة بين ضفتي المتوسط لا على جسرها. في السابق هناك من كان يؤكد على المصير المشترك لضفتي البحر المتوسط بالقول إن هذا البحر “بحيرة داخلية” وليس حاجزا جغرافيا واقتصاديا وسياسيا يفصل بين قارتين.

الواقع يظهر اليوم أنه رغم جهود الأطراف الساعية للتعاون والحوار فإن البحر المتوسط مازال أوسع من محيط .. في فصله بين عالمين مختلفين أظهرت طريقة مواجهتهما للجائحة مثلا أنهما عالمان متوازيان كل منغمس في هواجسه وشواغله الذاتية.

والأعمال الإرهابية وآخرها العمل الذي ارتكبه التونسي جمال قرشان في ضواحي باريس لا يمكن إلا أن يقدم خدمة إضافية لمن يسعى لتوسيع هذه الهوة.

فالتطرف الإسلامي يوفر لأحزاب أقصى اليمين في الغرب قرينة إثبات على صحة مواقفها السياسية ويشجعها على التمادي فيها.

هذا التطرف لا يمكن إلا أن يوظف كمبرر لنداءات العنصرية والكراهية والإقصاء التي تستهدف المهاجرين. وما يثير الانشغال لدى هؤلاء المهاجرين أن تصاعد مشاعر العداء تجاههم قد تطور في كثير من الحالات إلى تهجم على الإسلام كديانة بشكل يستفز كل المسلمين دون تمييز بمن فيهم منتقدو الإسلام السياسي .

والشعبوية ليس بالطبع حكرا على فرنسا وشمال المتوسط. ففي بلاد كتونس تبدو السرديات الشعبوية بمثابة ستار من دخان يشتت اهتمامات الجمهور في اتجاهات شتى لا علاقة لها بالأولويات الحقيقية للبلاد. ولا تقدم هذه السرديات طروحات واقعية لحل الأزمات المتعددة بل هي في الواقع جزء من الأزمة، إذ أن خطاب الشعبويين في تونس يساهم فقط في رفع منسوب الاستقطاب الحاد على الساحة السياسية.

بعض الأحزاب والتيارات والوجوه السياسية تبدو كل الوقت وكأنها في حملات انتخابية سابقة لأوانها، أو كأنها مصرة على البقاء مجرد ظاهرة سمعية بصرية لا غير. إضافة إلى ذلك تنظر التيارات الشعبوية إلى العلاقات مع الخارج وفق أولويات صراعها في الداخل ومناظيرها الأيديولوجية الذاتية، وهي مناظير تبرر الصدام مع الغرب أو بعضه، متهمة إياه بسرقة موارد البلاد وتهديد هويتها الحضارية. ولا يعني هؤلاء شيئا إن كان الأمر يتعلق بأهم شركاء اقتصاديين للبلاد أو بدول تحتضن أعدادا كبيرة من مهاجريها. لا تأبه أن أوضاع تونس تحتم عليها واقعية في التعامل مع البلدان الأخرى.

من المفروض أن يحتم هذا الواقع وعيا بأن الأعمال الإرهابية (والمواقف المتطرفة التي قد تسندها أو تبررها) تضع المهاجرين التونسيين في فرنسا، وهم في أغلبيتهم الساحقة يرغبون في الاستقرار وتحسين أوضاعهم داخل المجتمع الذي يحتضنهم، في وضع صعب. بل قد تضعهم في موقع الرهائن بين ضغوط متناقضة ليس لهم فيها دخل.

جمعيات التونسيين في فرنسا وأوروبا انتبهت لما تشكله ظاهرة التطرف من خطر على الأجيال التونسية والمتحدرة من أصل تونسي في فرنسا، فأصدرت مؤخرا بيانا بإمضاء أكثر من عشرين منظمة غير حكومية استنكرت فيه “كل أشكال الحشر والخلط والوصم التي ما فتئ يلاحق بها دعاة الكراهية، مجمل التونسيين في فرنسا والبلدان المضيفة”.

ولكن الجانب غير المسبوق في مثل هذه البيانات الصادرة في المهجر احتواؤها لنداء من أجل إطلاق حوار في تونس حول الإرهاب بما يجيب على جملة من “التساؤلات” حول طريقة معالجة السلطات للمشكلة.

تحدو منظمات التونسيين في الخارج رغبة في نزع فتيل قنبلة موقوتة لن يتوانى اليمين المتطرف في فرنسا عن استغلالها، لأن المهاجرين يعرفون أنهم سيكونون أول من يدفع ثمن تكرار الأحداث الإرهابية المرتبطة ببلدهم الأم، سواء من خلال ضريبة التمييز في الشغل أو المعاملات والإقامة وغيرها، خاصة إذا اشتد التوتر وإذا ما حقق أقصى اليمين تقدما كبيرا في الانتخابات القادمة أو بلغ مواقع متقدمة نحو الحكم.

Thumbnail

في بيان جمعيات المهجر دعوة لتحديد المسؤوليات ولتوضيح السياسات والمواقف حول التطرف والإرهاب.

ردود الفعل المسجلة عقب كل عملية دموية تعكس رفض الأغلبية الساحقة من المجتمع التونسي للإرهاب والتطرف، ولكنها تظهر أيضا وجود حاضنة ولو محدودة نسبيا من حيث العدد لمثل هذه الأعمال. هناك من لا يساند الإرهاب ولكنه يرفض التنديد به بصفة مطلقة لاعتبارات شتى. وكأنما الإرهاب وجهة نظر.

من الحيف القول إن حادثة رمبويي تجعل التطرف “مشكلة تونسية”، ولكنه ليس من باب مجانبة الصواب القول إن ظاهرة التطرف تمس التونسيين في حاضرهم ومستقبلهم مهما حاولوا النأي بأنفسهم عنها. تمس بالذات مصالحهم في الداخل والخارج على حد السواء.

صحيح أن تونس استطاعت بعد 2015 السيطرة إلى حد كبير على الظاهرة داخل حدودها والحد من قدرة شبكات التطرف على التحرك وإلحاق الأذى بالبلاد وبالآخرين، لكن عمل هذه الشبكات كان دوما ومازال يتجاوز الحدود. وجانب كبير منه أصبح افتراضيا أكثر من أي وقت مضى.

واليوم تحتاج المنظومة الأمنية في تونس إلى حد أدنى من التركيز على الموضوع من قبل السياسيين وليس فقط من قبل أهل الاختصاص من الأمنيين والعسكريين، ولكن البلاد في دوامة من التجاذبات لا تتوقف. ولا تستطيع الأطراف السياسية الفاعلة التوصل إلى توافق حول أي شيء.

وفي هذا المناخ ليس من السهل أن تجد المؤسسات الرسمية طريقها لمعالجة دائمة وطويلة المدى لمشاكل غير الخبز والوباء، وإن كانت مصدر خطر محدق بمصالح البلاد الحيوية في الداخل أو الخارج، مثل مشكلة التطرف بكافة جوانبها.

وما هو أكثر تعقيدا هو تفكيك المنظومة الفكرية والأيديولوجية التي توفر الأرضية التبريرية للتطرف. وهذا يمر عبر الكثير من الوسائط من بينها المدارس والمعاهد والمساجد والسجون والشبكات الاجتماعية وغيرها، داخل حدود البلاد وخارجها.

وهذا عمل لا بد أن تتضافر فيه جهود الدولة والمجتمع المدني وكل الفاعلين والمؤثرين على الساحة السياسية.

وسوف يكون أفضل مؤشر على بداية النجاح في تصحيح المسار أن تصبح التيارات الشعبوية في تونس سندا فاعلا في مقاومة التطرف وإدانة مرتكبيه، وتتوقف عن محاولة توظيف الظاهرة وتشكيل الخارطة الدبلوماسية للبلاد حسب مزاجها.

لا بد أن يأخذ الجميع بعين الاعتبار أن الدول المتحضرة والحكومات المسؤولة لا يمكن أن تترك فردا واحدا من مواطنيها رهينة في الخارج، مثلما هي لا يمكن أن تقبل أن يجرم أحد مواطنيها في حق الآخرين.

7