التطبيع مع اللاعقل

أن يصل الأمر إلى اهتمام المؤسسات الرسمية بشؤون السحر والسحرة، من برلمان وأمن وحكومة، فذلك جرس إنذار حقيقي يتوجب على العقلاء دقه.
الثلاثاء 2025/05/27
التطبيع مع الشعوذة

أن يتحول المرء إلى لص لا بد أن يسرق عدة مرات، وأن يكون مدمنا على شيء يتوجب تكرار استهلاكه، وأن يكون شخصا قاتلا لا بد أن يقتل عدة أشخاص، وهكذا دواليك، فإن بذلك يحدث التطبيع مع الأشياء، ويصبح السلوك عاديا في نظر أصحابه، بينما يبقى في نظر المحصنين جرما تعاقب عليه السماء والأرض.

وهنا تكمن ربما قاعدة “حذرا لا تكررها مرة أخرى،” لأن واضعها كان يعلم أن تكرار السلوك سيؤدي حتما إلى التطبيع، فكم من حمْل وديع في صفوف الجماعات المسلحة، ذكر أنه ظل مترددا في بداية الأمر على ارتكاب جريمة القتل، لكنه بمجرد أن قتل الأول والثاني، صار القتل هواية له، ولا يشعر بالراحة إلا على صور الدم والأشلاء.

وكم من مدمن مخدرات أو مهلوسات، دفعه في بداية الأمر حب الفضول أو أصدقاء السوء لتذوقها، لكن تكرار نفس العمل حوّله إلى شخص مدمن يطارده طيف معشوقته أينما حل أو ارتحل، والأمر ينسحب على مختلف السلوكات والأفعال التي تكون منبوذة في البداية، لكنها تصبح عادة في النهاية.

الأمر قابل للتحكم أو الوضع تحت السيطرة لما يتعلق الأمر بالأفراد، فالمجتمع والمؤسسات والقوانين كفيلة بضبط الأوتار ووضع الأشياء في نصابها، لكن المشكلة لما يصبح المجتمع برمته مطبعا طواعية مع جملة من السلوكات والأفعال، التي يمقتها في الظاهر لكنه يمارسها في الخفاء.

إلى وقت قريب، كان الكل يشترك في العمل التربوي والأخلاقي، من الأولياء في الأسرة، إلى المعلم في المدرسة، وإلى الجار والأهل، ثم المسجد والإعلام، وغيرهم، لكن الآن الكل مستقيل من هذه الوظيفة، والكل تنتهي صلاحيته عند حدود الباب الذي يفصله عن الشارع، فما الذي حدث؟ ألهذه الدرجة صارت عملية بناء الفرد عصية وثقيلة على الأفراد، والكل في انتظار السلطة الردعية لتصويب الوضع.

في الجزائر يخوض ناشطون بخلفيات مثيرة للجدل حملات تنقية المقابر، ليس من الحشائش أو النباتات اليابسة، ولا من الفضلات أو الأغراض المسيئة لحرمة سكان الدار الأخرى، بل من السحر، الذي يجمع “المختصون” على أنه من أخطر وأعصى الأسحار، وكرد فعل طبيعي قوبلت الحملة بآراء ووجهات نظر ناقدة، لانغماس قطاع من المجتمع في هذا النوع من التفكير والممارسات.

الجدل لم يتوقف هنا، بل امتد إلى البرلمان والمشرعين والمختصين في القانون، لضبط ترسانة قانونية تعاقب السحرة على أفعالهم، ويجري تنظيم حملة أمنية لتفكيك وتوقيف المشتبه في ممارستهم تلك الأفعال، وتوسع الهرج والمرج لتتحول المسألة إلى قضية رأي عام، وكأن البلاد حلت كل مشاكلها ولم يبق إلا السحر والسحرة.

لا أحد تساءل من أين جاء هؤلاء، هل نزلوا من السماء أم هم جزائريون كغيرهم من الجزائريين، وأن زبائنهم هم جزائريون أيضا، وأن المجتمع الذي يبرر عجزه وفشله في حل مشكلات البطالة والسكن والشغل والعلاج والدراسة، هو الذي أوجدهم، وأن المسألة هي تطبيع هادئ مع حياة الدروشة والدراويش وقراء الطالع والحظ.. وغيرهم.

أن يصل الأمر إلى اهتمام المؤسسات الرسمية بشؤون السحر والسحرة، من برلمان وأمن وحكومة، فذلك تطبيع صريح مع سلوك وتفكير من خارج التاريخ، وذلك جرس إنذار حقيقي يتوجب على العقلاء دقه، فبعد التطبيع مع الإجرام والإدمان والفوضى والفساد، بات الخطر داهما، لأن المسألة لم تعد مجرد أفراد مطبعين بل مع مجتمع مستعد للتطبيع مع أي شيء، والحل لدى المختصين وأولي العلم والبصيرة، وليس بيد الرقاة وشيوخ بصدد تحريم أبدي للصور الفوتوغرافية والأقفال، لأنها وسائل رائجة لدى ممتهني السحر في المقابر.

18