التصوير الشعري ليس مجرد استعارة

الشاعرة المصرية نورا عثمان: الشعر يتخطى كل القوالب.
الثلاثاء 2022/09/27
الوعي هو عتبة التغيير

عوضت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير الساحة الثقافية والأدبية في الواقع، فلم يعد الكتاب والشعراء مجبرين على اللقاء واقعيا للتفاعل الذي وفرته هذه الوسائل افتراضيا، وهذا ما ساهم في تعدد التجارب الجديدة. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الشاعرة المصرية نورا عثمان حول الشعر والأدب ورؤاها الأدبية والثقافية.

وسط سيادة قصيدة النثر على المشهد الشعري، وكتابة معظم شعراء الجيل الحالي قصيدة النثر بالإضافة إلى تحول كثيرين من أجيال سابقة عن الشعر العمودي والتفعيلة إلى ما اعتبروه النمط السائد في الكتابة، تكتب الشاعرة والمترجمة والفنانة التشكيلية الشابة نورا عثمان القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، ولكنها كتابة تحمل خصوصية الشغف نحو تشكيل إيقاع ورؤى ومخيلة ولغة وشفافية وتلقائية مغايرة.

تنفتح عثمان على الشعر فنا وإبداعا متجاوزا وليس على مجرد نص -قصيدة النثر- على اختلاف تجلياته الحداثية، لذا تشكل قصائدها في القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة متوهجة بروح ما نعيشه من حيوات. وفي هذا الحوار معها نستكشف عوالم رؤاها وأفكارها ومن ثم تجربتها الشعرية.

التصوير الشعري قائم على أبعاد حقيقية ويحتاج إلى بناء الصورة بالكيفية التي يبني بها الرسام لوحته والسينمائي مشهده

القصيدة والموسيقى

تقول نورا عثمان “أظن أن ما يشكل عوالمنا الشعرية والفنية، الفنية بالأخص، يكمن في جانب من المخيلة لا نعرف ما صلة الواقع به على وجه التحديد، لأنه الجانب الذي يختص بالأحلام. لكن يظل للواقع دوره الأهم في تشكيل مادة الحلم هذه وصبّها في القالب الإبداعي، وإذا نظرت إلى التكوين الاجتماعي والمعرفي بوصفه مرتكزا أساسيا واقعيا في تشكيل عوالمنا الإبداعية، فإنني أظن فيما يخصني أن نشأتي -أو بيئتي الثقافية والاجتماعية- اتسمت بملمحين مؤثرين هما: انعزال هذه البيئة قدر الإمكان عما يمكن أن يقيد حريّة الإنسان الفكرية، الانعزال الذي أسهمت به طبيعتي المنطوية بالأساس بالإضافة إلى وعي تربوي لدى الوالدين، وحضور ‘مثل أعلى’ يحرص على الحفاظ على الحرية الفكرية كقيمة في حد ذاتها، ويحضّ على الثقافة ومواكبة العلم”.

وتضيف “اللبنة الأولى في تشكيل ميْلي إلى الشعر أو الرسم كانت الانجذاب الفطري، فطريا كنت منجذبة بشكل كبير للألوان منذ الطفولة، وجود اللون فقط بإمكانه تخليق شعور لا يمكنني وصفه بداخلي، اللغة أيضا في قالبها الشعري والمجرّد كانت تولّد داخلي حسّا مختلفا، افتتانا عقليا وشعوريا في الوقت ذاته. هذا الولع الفطري نما في محيط يقدّره، لم يكن هناك من يزجرني لأنني أقضي الساعات في القراءة أو العبث بالألوان. ومن هنا، من هذا الافتتان الذي توفرت لي الحرية اللازمة للتعبير عنه، نمت المعرفة، واستمر طريق التعلّم الذي قاد في النهاية إلى الممارسة. وبالممارسة وما تكتشفه من خلالها ومن خلال تأملك لنتاج الآخر أدبا وفنّا ونقدا، الآخر الذي يشترك معك في ذات الثقافة، أو الآخر صاحب الثقافة المختلفة، ومن خلال وعيك بهذا الكم من التباين المعرفي والشعوري والفني تتسع عوالمك، ويصير الاتجاه إلى الترجمة اتجاها مُلِحا لأنها طريقك ذهابا وإيابا بين عالمين، وما أكثر ما تحصّله بامتداد الرحلة”.

وتشير عثمان إلى أنه “إذا كانت لتجربتها خصوصية ما تربطها بقصيدة التفعيلة، فهي تعزو الأمر مرة أخرى إلى الافتتان الأول؛ تقول “حضور الموسيقى مُتجذّر في إحساسي الأول بالشعر وتفاعلي معه. لكن بطبيعة الحال اختلفت طبيعتي كمتلقية للشعر ومن ثمّ شاعرة، صرت أكثر وعيا بعناصره الأخرى، وأكثر اطمئنانا لفكرتي الدائمة عنه وهي أن جوهر جماله يتخطى القالب. القوالب -بنظري- خارجة عن مادة الشعر، مستعارة لأجله. وللشاعر حريته، مع مراعاة ألا نتساهل كثيرا مع هذه الفكرة الحداثية”.

وتضيف “بالنسبة إلى تجربتي فإنني لا أتعامل مع الموسيقى باعتبارها مكوّنا وجوده يعني التزاما فنيا وغيابه يعني خللا؛ إنما أرى الشعر كائنا والموسيقى حاسة من حواسه، إن غابت فثمة حواس أخرى تعوض غيابها، وإن وجدت فهذا هو الأصل في تمام خلقه الفنيّ. قصيدة التفعيلة لها خصوصية تجعلها -بالنسبة إلي- الشكل التعبيري الأصدق. على هذا التيار الخافت من الموسيقى، وبهذا التكوين الحر للبناء الشعري، وهذه الطاقة التي تظهر بها اللغة في النص التفعيلي أكون أصدق ما يمكن لي، وأمارس حريتي الفنية كما أحب. وهذه غايتي من ممارستي للشعر”.

التقييم يفتح آفاقا جديدة للإبداع ويسلط الضوء على نماذج فعّالة في استغلال ما لا يلتفت إليه الآخرون من إمكانيات

وترى أنه فيما يتعلق بتحوّل الكثيرين إلى قصيدة النثر باعتبارها الشكل السائد “أظن أننا لو قمنا باستثناء الأقلام التي لا تبذل جهدا حقيقيا فإننا لن نعزو تحوّل الكثيرين لقصيدة النثر إلى كونها شكلا سائدا. أظن أن الشكل العمودي سائد بقدرها، ولسيادة الشكلين -الآن- أبعاد ربما لا تكون فنية في معظمها. التفعيلة بشكل خاص خارج هذه المعادلة وتخطيها كقالب فني أمر يستدعي الدراسة”.

وتضيف “إن ارتباطي بالتفعيلة مؤكد، لكن إيماني بحرية الشاعر وهشاشة ما نسميه ‘قالبا’ أكبر، لذا يحدث أن أحن إلى الشكل العمودي الأكثر ثراء وصفاء في الجانب الموسيقي، والأكثر تحديا -بالنسبة إلى شاعر تفعيلي- في التغلب على النمطية التي ربما يحاصره بها القالب العمودي، أو إلى الشكل النثري الفعّال في تعرية الذات الشعرية، حتى أنه يعريها من الحضور الموسيقي، الذي يحمل في ذاته قيمة لا يصح إنكارها كما لا يصح بأي حال من الأحوال اعتبارها صنما لا يجوز للشاعر تحطيمه”.

وتؤكد الشاعرة إيمانها بإمكانية أن تجدد كل من القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة من روحها وتخرج على ما ترسخ من تقليديتها وافتعالاتها لغة وموضوعا، وتراه في موضع تحقيق بالفعل. ربما موجة الخروج هذه ليست عالية بقدر يسمح برؤيتها في محيط الإنتاج الشعري الذي يختلط فيه الحابل بالنابل، لكنها بلا شك موجودة وصوتها مؤثر، وإن كان هذا الأثر “أثر فراشة” فهناك محاولات جادة وجديرة بالاهتمام تسعى عن وعي وعن مقدرة فنية لانتشال القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة من دوامة النمط، والوعي دائما هو عتبة التغيير.

وتتابع “أظن أنني أتفق مع فكرة أن الشعر بالفعل يتخطى القالب، الأشكال المتعددة سمحت برؤية هذا بشكل أفضل. إذا نظرنا مثلا إلى فن الرسم ومدارسه المتعددة، التي هي أشكال مختلفة للتعبير الفني تماثل القوالب المختلفة للتعبير الشعري، سنجد أن ظهور هذه المدارس واستمرارها حطّما فكرة ‘النموذج الأكاديمي’ ورسّخا فكرة التنوع والتذوق المغاير للعمل الفني. وبالمثل فكرة أن الشعر لا يتحقق إلا في قالب معين، تم تحطيمها بظهور قوالب شعرية أخرى، سواء قبلنا بهذا أو رفضناه، وصار الشاعر الذي يختار هذا القالب أو ذاك يعلم تمام العلم أن اختياره لهذا القالب ليس تميّزا بحد ذاته، بل هي حريته المكفولة، وللإبداع والتميز والصوت الصادق المختلف متطلبات أخرى أرى الكثيرين قد صاروا أكثر وعيا بها”.

وتشدد نورا على أن الوعي هو عتبة التغيير، وعن ذلك تقول “الوعي ليس فقط بما في اللغة من طاقات جمالية وأسلوبية وفنية ولكن بكيفية التطبيق واستغلال هذه الطاقات، كي لا تكون المغامرة من أجل التجديد عبثا ورجوعا إلى النقطة صفر. أمامك كشاعر مواد خام خلّابة في صورتها المجردة، ومع ذلك عملية التصنيع في حالة عدم الوعي بكيفية تشكيل هذه المواد ودمجها بصورة تعكس تفرّدك لن تقود إلا إلى صنعة رديئة أو مكررة في أفضل الأحوال”.

الشعر والفنون

الشاعرة المصرية تؤكد أن الوجود في الوسط الأدبي النشط ضرورة لكل شاعر وشاعرة بالأخص في بدايات تحققهما

تشير عثمان إلى أن للنقد دورا جوهريا، وهو دور لا يُمارس كما يجب بالأخص في نقطة التفات الناقد إلى المشهد الشعري الحالي، والنظرة إليه من داخله، لا النظرة المتعالية التي تعاين من الخارج، وهي بالمناسبة نظرة أسهمت في اتساع الفجوة بين الشاعر والمتلقي. لا أقول إن دور الناقد هو الأخذ بيد المتلقي، ولكن دوره يتمثّل في تقييم مدى وعي الشاعر بمعطيات فنه ومتطلباته التي تتطور باستمرار.

وتضيف “التقييم الذي من شأنه أن يفتح آفاقا جديدة للإبداع ويسلط الضوء على نماذج فعّالة في استغلال ما لا يلتفت إليه الآخرون من إمكانيات، ويجنّب المتلقي الوقوع في اعتقاد أن النماذج الفنية المعاصرة لا تستحق الالتفات إليها وبالتالي تتوجه ذائقته -لغير علم أو لتحيّز- إلى نموذج تقليدي، يتذوق جماله بحكم الألفة، فيلزمه ولا يحيد عنه. وأضيف إلى الوعي بما في اللغة من طاقات جمالية وأسلوبية وفنية، الوعي بأمر آخر أراه هاما للغاية وهو تضافر الفنون. الروافد الإبداعية كلها تستقي من ذات المنبع وتصب في ذات المصب، وهذا المنبع والمصب في الوقت ذاته هما التعبير الإنساني”.

وتتابع “اللغة وطاقاتها، الصورة وجمالياتها الثابتة كما في فن الرسم، وجمالياتها المتحركة كما في السينما، البناء وديناميكيته وقدرته على اتخاذ أشكال متنوعة تحاكي التنوع الذي نراه في الطبيعة والمعمار، كل هذه التضافرات جديرة بالإدراك.أما المتلقي فلا سبيل للتكهن بما يبحث عنه في العمل الفني. ولا أظن أن هناك سبيلا آخر لصُنع المتلقي الواعي ذي الذائقة الحرة المرنة إلا بتعليم حقيقي يقوم على التفكير الحر ورفع مستويات التذوق الفني”.

وترى نورا أن كتابة الشعر أفادتها كثيرا في ترجمة الشعر، وتقول “الأمر متعلق بطبيعة الشعر، في كتابتك لنصوصك أنت تستقي شعورك اللغوي مباشرة من لغتك الأم. وكتمرين على كتابة نصوصك، لا أظن ترجمة الشعر ذات فائدة كبرى، ما دمت تسعى لأن تكون لغتك الشعرية ذات روافد وتعابير عربية صرفة، بمعنى أنها تحمل الروح العربية في جملتها حسّا وتركيبا ولغة. وهذا لا يتعارض مع كون الترجمة توّسع حس الشاعر باللغة بصورة كبيرة؛ ذلك أنه كمترجم يقف أمام لغة أخرى، وأمام شعور لغوي جديد، وحسّ مختلف باللغة من شاعر إلى آخر، ويحاول أن يلتقط هذا الشعور على نحو رهيف، وبأدقّ طريقة ممكنة، وينقله إلى لغته، وإلا قضى على الشعر تماما في عملية الترجمة، وقضى أيضا على تباين أساليب الشعراء الذين يترجم أشعارهم. وهذه المحاولات للنقل المتمرس للشعور، التي نمارسها بطبيعة الحال كشعراء، هي ما أفادني في عملية الترجمة”.

الشاعرة تؤكد إيمانها بإمكانية أن تجدد كل من القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة من روحها وتخرج على ما ترسخ من تقليديتها وافتعالاتها لغة وموضوعا

وتضيف “إذا نظرنا إلى القوالب من منظور معين سنجد أن القوالب دورها محدود، وأن الدور المحوري من نصيب الطريقة التعبيرية. المشاعر العدمية المنفلتة التي عبرت عنها في نصوصي العمودية الأخيرة، ونبرة الأسى الواضحة والعوالم الممزقة التي هي أشبه بمرايا لا تعكس شيئا، كان من الممكن أن أتخذ للتعبير عنها أي شكل تعبيري، كأن أعبر عنها في لوحات، أو أختار لها قالبا تفعيليا أو نثريا، ولكنني بشكل ما شعرت بحاجة إلى الشجن الموسيقي الواضح، والمساحات التي تبدو محدودة على اتساعها من جانب، وواسعة على تحديها الممتع للحركة بداخلها من جانب آخر، أردت أن أختبر الدخول إلى هذه المعادلة العمودية الممتعة والخروج بنتيجة صادقة تعبر عن ذاتي وتنقل صوتي. ومن خلال هذه التجربة رأيت أن القالب المحكم يستطيع أن يستضيف حسا منفلتا دون أن يحده بصرامته، ما دام الشاعر يعي أن عليه أن يصمم رقصته -متدفقة- عبر المساحة العمودية ووفق قوانينها”.

وتؤكد نورا أن ممارستها للرسم لها تأثير كبير على نصوصها الشعرية، تقول “الملمح الأبرز الذي اكتسبته من عوالم النور والظلال، هو كمّ الأبعاد التي أحرص على إظهارها بالصورة. التصوير الشعري ليس مجرد استعارة الصورة الذهنية لشيء لتحل محل الصورة الذهنية لشيء آخر، هذا مجرد استبدال وليس تصويرا. التصوير الشعري قائم على أبعاد حقيقية، ويحتاج إلى بناء الصورة بالكيفية ذاتها التي يبني بها الرسام لوحته والسينمائي مشهده؛ تصوير ديناميكي يكاد القارئ يراه من فرط حرص الشاعر على رسم تفاصيله بشكل بصري”.

وتضيف “هناك أيضا نسيج مختلف في عالم الظلال والنور؛ نسيج الرسم المبدئي الذي هو خطوط وألوان وظلال وإضاءة وتشكيلات ونسب فنية، نسيج يختلف كليّا عن نسيج الشعر المبدئي الذي هو مفردات لغوية وموسيقى وتراكيب نحوية. باللجوء إلى التجريد يكون نسيج الرسم -بالنسبة إلي- نسيجا شعوريا في مقابل النسيج العقلي المرتبط باللغة. مع ذلك وبممارسة الفن التشكيلي بجوار الكتابة، يتمكن الشاعر/ الرسام من الوقوف فعليا في نقطة التقاء عالمين، ومن هذه النقطة يتسنّى له أن يفهم تقاطع العالمين بصورة مغايرة. ويولي العامل البصري في نصوصه عناية لم تكن لتظهر في حال اعتمد على التخييل وحده”.

وتختم نورا “لكون حياتي بعيدة عن القاهرة، ولميلي وتفضيلي الدائم للحياة الهادئة والمنعزلة في مقابل الصاخبة والاجتماعية، بلا شك أشعر بأن الوجود في الوسط الأدبي النشط ضرورة لكل شاعر وشاعرة بالأخص في بدايات تحققهما. إن صفحات التواصل الاجتماعي والفضاء الإلكتروني بلا شك يسهمان بالكثير ويعوضان الشاعر عن الأوساط الفعلية المفتقدة. أتخيّل لو كان الواقع خاليا من هذه المساحة الكبيرة المتاحة أمامنا كشعراء وشاعرات -بالأخص الشاعرات- في عزلتنا المختارة أو المفروضة، كيف سيكون مآل الوضع دون التواجد في القاهرة؛ لا شك كنا سنكون مهمشين وبعيدين كل البعد عن الضوء”.

13