التشكيل البصري لمرويات من التراث يثير جدل الصدق والكذب

الباحثة الجزائرية نسيمة بوصلاح تدرس "دراما الزير سالم" من المشافهة إلى الصورة.
الخميس 2022/02/03
الصورة مثلها مثل الكتابة تحتاج إلى معجم

تراجعت الخطابات المكتوبة تراجعا لا يمكن إغفاله في مواجهة ما يعرفه العالم تقنيا وتفاعليا مع كل ما هو بصري ورقمي، حتى باتت الصورة تعوّض النص المكتوب أو حتى الخطاب الشفوي، وهو ما نراه في الكثير من الأعمال التاريخية التي تناولت سيرا وحوّلتها من نصوص إلى دراما للمشاهدين، فيما تطرح دائما الجدل حول مسألة المصداقية.

تتساءل الباحثة الجزائرية نسيمة بوصلاح، المتخصصة في الأدب الشعبي والدراسات التراثية، في كتابها “من المشافهة إلى شاشات العرض.. التشكيل البصري للدوال التراثية/إرسالية الزير سالم نموذجا” عن الوضع الأنطولوجي للمواد التراثية ذات الطبيعة الشفوية، وعن مدى قدرتها على الصمود في عالم صار يحفل بالفردانية التي لا تجد مثل هذه المواد مكانا فيها، وذلك بسبب طبيعتها الاتصالية المباشرة، التي تفرض حضورا عينيا مؤطرا بفضاء معلوم، لكلّ من الباث والمتلقين “الراوي الشعبي والمستمعين”.

ترى بوصلاح أن الصورة الرقمية لم تربك الخطابات الشفوية فحسب، بل أربكت الفنون البصرية الأخرى كالرسم والمسرح وحجمت دورها في حياة الإنسان المعاصر، ومن ثم حاولنا في البحث أن نقع على رابط بين المواد التراثية والصورة، لمعرفة القنوات التي تغذي مرجعيتها “أي الصورة” من جهة كون الصورة هدفا، لمعرفة الوسائط التي تستطيع أن تحافظ على المواد التراثية الشفوية من الضياع، من جهة كون المادة التراثية هدفا.

اللفظي والبصري

الصورة في الدراما باتت قادرة على أن تكون صادقة أو كاذبة بالدرجة نفسها مع القضية الكلامية بين الصدق أو الكذب

وتشير الباحثة إلى أن ما قطعته الدراما العربية في هذا المجال، من تحويل للكثير من السير إلى أعمال درامية ضخمة، بداية بسيرة عنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي وانتهاء بالظاهر بيبرس والزير سالم، دفعها إلى التوقف بالبحث عند إشكالية تقديم المواد التراثية تقديما بصريا، والتي تكمن في كون هذه المواد تقع في مستنسخات التاريخ الثقافي، بينما يتحدد الوسيط الناقل بسمته الأساسية وهي طبيعته الآنية الحاضرة.

إضافة إلى ذلك تطرح إشكاليات أخرى أكثر عمقا وصرامة من مثل إرباك الصورة لمفهوم التاريخ والتراث، وما قد ينتج عن تفريغ الجذر التراثي من إخلال ببنية الذاكرة الشعبية أثناء العمليات الجديدة للمحو والاستعادة، والتي تتم على مستوى المخيال البصري هذه المرة، وتفرضها وجهة نظر أناس معلومين يقفون خلف صناعة هذه الصورة المستندة إلى جذر ثقافي في ظاهرها، والتي يمكن أن تكون في النهاية حاملة لوجهة نظر صاحبها، ومواقفه من التراث والتاريخ بشكل عام.

وحول اختيارها لدراما “سيرة الزير سالم” نموذجا والتي أنتجت وعرضت عام 2000 في 40 حلقة من إخراج الراحل حاتم علي وتأليف ممدوح عدوان، تقول بوصلاح “كونها تعتبر أول سيرة شعبية مقدمة بصريا في الدراما السورية، وأول عمل في سلسلة الإنتاجات السورية، يحاول التخلص من الفانتازيا المصنوعة بصريا، ليستند إلى شيء من التاريخ والتراث الشعبي، ويقدم دراما تلفزيونية بلغة سينمائية خالصة. هذه السيرة المنتمية إلى سياق ثقافي معلوم، والتي لا تزال تروى إلى اليوم في بعض مجالس السمر، ربما لثقل الحدث فيها، وربما لامتلاء الذاكرة بها، كانت سببا داعيا كي نختارها عيّنة للدراسة، ليس لكونها شكلا أدبيا عظيم الفائدة، بل لكونها شكلا ثقافيا يمتلك من الخصوصية النوعية ما يجعله ينفتح على استيعاب المنظور الحواري القائم على التعددية في وجهات النظر والتجارب.

إن بحث بوصلاح، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يندرج في حقل الدراسات الثقافية التي تحاول أن تسائل خطابات تقع في مستنسخات الثقافة، من منظور حواري، ومن ثم اتخذ من “سيرة الزير سالم” التراثية في نسقها اللفظي “متمثلا في المرويات الشفوية والمكتوبة” والبصري “متمثلا في مسلسل درامي من 40 حلقة” عينة للمقاربة والتحليل.

على مستوى النسق اللفظي اعتمدت بوصلاح على عينتين لفظيتين الأولى هي أقدم سيرة شعرية مطولة من بلاد الشام، مطبوعة عام 1894 تحت اسم “ديوان الزير أبي ليلي المهلهل”، و”ديوان الجرو بن الأمير كليب”، مصاغة بلهجة بدو الشام، وهي العينة التي اعتمد عليها كاتب السيناريو الشاعر ممدوح عدوان اعتمادا يكاد يكون كليا. والثانية من شبه جزيرة العرب، بالضبط من منطقة الباحة جنوبي المملكة العربية السعودية التي يعتقد أن قبر كليب بن وائل بن ربيعة، أخي الزير أبي ليلى المهلهل موجود فيها، وهذه السيرة مروية على لسان الراوية عبدالله بن محمد بن قشريط الغامدي، بلهجة أهل الجنوب في السعودية.

إنه وإن كانت العينة اللفظية الأولى مدونة ومطبوعة إلا أنها ذات أصل شفوي، ولا شك في أن المرويات السردية التراثية بصورة عامة، تنحدر من جذور شفوية، فهي فن لفظي يعتمد على الأقوال الصادرة عن راو يرسلها إلى متلق ولهذا السبب كانت الشفوية موجها رئيسيا أضفى سماته على الملاحم الخرافية والأسطورية.

وعلى مستوى النسق البصري ترى بوصلاح أن مسلسل “الزير سالم” يشكل مع السيرتين الشعبيتين المرويتين لفظا، بؤرة تحول بارزة في متوالية الإنتاجات السمعية البصرية الدرامية العربية، بفضل اعتنائه الدقيق بإدارة الكاميرا على كل ما هو تخييلي سردي تراثي، وتمثل هذه الخاصية ملمحا إستيطيقيا مميزا لكاميرا المخرج الراحل حاتم علي، حيث يولي أهمية مركزية لمكون التخييل، الذي يمكن من خلال الملاحظة البسيطة أن نجعله في الآتي المزج بين الواقعة التراثية والتخييل الدرامي، التركيز البصري على الشخصيات التراثية المأزقية والغامضة التي تعيش وجودا إشكاليا، استقطاب الميثولوجي والماورائي بإثارة أسئلة الوجود حول النشأة والمصير والقدر.

كما استعملت الباحثة الإطار السيميائي منهجا لبحث التشكيل البصري للدوال التراثية، وهذا لم يمنعها من أن تشدد على إبراز القرائن السوسيوتاريخية في النص، واعتباره جزءا من البناء المجتمعي؛ أي اعتبار النص هو كل علامة لها وظيفة اجتماعية أي أنه علامة قابلة للاستعمال والتداول داخل ثقافة محددة.

الصورة كتابة

الباحثة ترى أن مسلسل "الزير سالم" يشكل مع السيرتين الشعبيتين المرويتين لفظا بؤرة تحول في الإنتاجات السمعية البصرية الدرامية العربية

تكشف بوصلاح أن بحثها للوضع العلامي اللفظي والأيقوني على حد سواء في دراما “الزير سالم” أوضح أننا “نقع في قلب الثقافي”، والثقافي وإن كان يتجلى في أكثر من مظهر؛ كالأعراف والتقاليد وأنماط السلوك والاحتفالات الشائرية والدينية والفنون، والشخصيات التراثية، فإن اللغة تمثل النظام المركزي الذي يعبر عن كل المظاهر الثقافية، من هذه الزاوية تبرز الثقافة كأنظمة متعددة مركبة من العلامات، يقع في قلب المركز منها نظام العلامات اللغوية، لأنه هو النظام الذي تنحلّ إليه تعبيريا باقي الأنظمة في الدرس والتحليل.

إن القول بجاهزية العلامة الأيقونية على ما ذهب إليه بعض السيميائيين من أمثال لوتمان، قد يصدق على العلامات الأيقونية التي تدخل في إطار التداول اليومي والاعتيادي لمجموعة بشرية معينة في لحظة تاريخية معينة. ولكن إذا ما تعلق الأمر بعلامات أيقونية من نوع آخر اصطلحنا على تسميتها في البحث علامات تراثية، وهي التي تكون قد غادرت وثوقياتها التاريخية والجغرافية، فإن ثمة اشتراطات سياقية يجب أن تتدخل كي نستطيع من خلالها فك الشيفرة التي ترمي هذه العلامة الأيقونية إلى إيصالها.

وتتابع “كذلك الإقرار بكون ‘الكلمة’ تصلح كوسيلة للنزيف فيما تسجل الصورة عدم صلاحيتها لذلك. فقد ثبت من خلال البحث عدم إمكانية الاطمئنان لهذا الطرح وخاصة مع التطور الرقمي والتكنولوجي الهائل الذي يطال برامج تحرير الصور، مما يجعل الصورة بالتالي قادرة على أن تكون صادقة أو كاذبة بالدرجة نفسها التي تمكّن قضية كلامية ما من أن تكون صادقة أو كاذبة بسبب الانفلات التكنولوجي الكبير الذي طال عالم الصورة المرقمنة، ويمثل هذا على مستوى الصورة الفوتوغرافية الثابتة. لكن الأمر بدأ أكثر تعقيدا عندما اتجهنا إلى صوت الشاشة؛ إذ يصبح الكذب أو الزيف متواضعا عليه بشكل اتفاقي غير واع بين مجموعة من المتلقين، بل قد يحل محل الأصل في عمليات محو وإعادة تعبئة، خاصة إذا كان هذا الأصل في حد ذاته غائبا بفعل المسافة الزمنية التي تفصلنا عنه”.

وترى بوصلاح أنه وإن كان البعض يذهب إلى أن الصورة أكثر أهمية من الكتابة، لأنها تفرض الدلالة دفعة واحدة، دون أن تقوم بتحليلها أو بعثرتها، إلا أنها في بحثها ذهبت إلى رولان بارت الذي أشار إلى أن هذا لم يعد فارقا تكوينيا، فما أن تكون الصورة دالة حتى تتحول إلى كتابة. والصورة مثلها مثل الكتابة تحتاج إلى معجم، وقد تمكننا من الإمساك ببعض مفردات معجم التدلال بالصورة، وقد حصرته على مستوى البحث في الدلالة بالتقابل، أي التقابل بين الوضعيات والمشاهد والصور، والدلالة بالتركيب أو المونتاج، بحيث حصلت من خلال التتبع للمونتاج على صور ومشاهد لا يمكن أن نقع عليها في الحياة، وإنما توجد بشكل حصري في السينما والسينما وحدها، والدلالة بالقناع عن طريق إلباس صور معروفة لدى المتلقي أقنعة معينة تساهم في شحنها بإمكانية الاندراج ضمن سيرورة سيميائية ما كانت لتندرج ضمنها في وضعها الصوري الأول. والدلالة بالإخفاء عن طريق خلق بياضات مشابهة لتلك التي نعثر عليها في الخطابات المكتوبة والتي من شأنها أن تفشي بياضا دلاليا معينا، والدلالة بالوضعية التي يمكن أن نعثر على ما يقابلها في المعجم البلاغي من تقديم وتأخير، إلى غيرها من طرائق التدلال التي حاول الكون البصري الزير سالم بثها.

تقسم بوصلاح كتابها إلى مدخل وأربعة فصول، في المدخل عنيت بتعريف العينتين السيرية والبصرية اللتين يقوم عليهما بحثها، ومستعرضة لطبيعتيهما البنيويتين، والإشكاليات التي تواجه من يقرأ خطابات ذات بنى مشابهة، وفككت في الفصل الأول الوضع الإبيستيمي للعلامة، لتصل إلى تخصيص مفهوم العلامة التراثية، باعتبار الدال جزءا من العلامة ومحركا فعالا في عملية التدليل، والجزء الذي تقع عليه عملية التشكيل ومحاولات التغليف الخطابي، كما رصدت أهم الدوال التراثية في المتن الحكائي اللفظي التي تم تشكيلها بصريا.

واستثمرت نتائج هذا الفصل لتعرض في الفصل الثاني لاستراتيجية اشتغال الدلالة بين المحكيين البصري واللفظي، كاشفة في الفصل الثالث عن سنن الترميز في الرسالة البصرية “الزير سالم” وملاحقة زوايا توقفها ومفارقتها للمرجع التراثي، متمثلا في السيرة الشعبية برواياتها الثلاث، والوقائع التاريخية كما هي مثبة في المصادر. وقاربت في الفصل الرابع والأخير الهيئات السردية بين النسقين السيري والبصري، وعلاقة عناصر اللغة السينمائية وهيئات السرد.

14