التشكيلية كارولينا باسكاري: الموضة والفن عالم واحد.. وعلم النفس أداة كاشفة

حالة فنية تعكس خبرات الفنانة الشخصية وتأثيرات الأشخاص من حولها.
الاثنين 2023/01/16
ألوان متناسقة تنشّط عملية التحرر العقلي

لم تفصل الفنانة التشكيلية كارولينا باسكاري بين شخصيتها الواقعية وتلك الفنية وإنما جعلت من كل خبراتها العملية والفضاءات التي تنتمي إليها وهواياتها وأفكارها وحتى الأشخاص المؤثرين في حياتها، محفزا لها للإبداع وعنصرا أساسيا تستمد منه أسلوبها الفني وأفكارا تميزها عن أقرانها في الوسط التشكيلي.

تنفتح لوحات عارضة الأزياء والفنانة التشكيلية كارولينا باسكاري على رؤى جمالية لأعماق النفس الإنسانية في مختلف تجلياتها الحياتية والعاطفية، وما يمور فيها من تفاعلات في مواجهة العالم الرقمي بتقنياته ووسائل تواصله من جهة ومن جهة أخرى الصراعات والحروب وتلوث المناخ، ومن ثم ظلال متناقضات كل ذلك على الجسد والروح، وعلى الرغم من أن ألوانها تتمازج بخفة وحيوية إلا أنها تضرب بقوة لتنسج اضطرابات العقل والوعي والواقع والحب وعنفوان اللذة والرغبة العميقة للوصول بالواقع المادي المرئي الملوث لعالم آخر مطلق الحرية والفرح.

إن تأثير عمل باسكاري السابق كعارضة أزياء وثم عملها أخصائية نفسية حيث حصلت على إجازة في علم النفس، وماجستير في التشخيص النفسي السريري، ومتخصصة في ما يعرف بالتلوث العقلي، يطل بقوة على تكويناتها اللونية وحركة خطوطها التي تجيء أحيانا داخل فضاءات من البياض وكأنها رؤاها بها تسبح في فضاء خيال فني متلاطم، بحثا عن الأحاسيس والهموم الكامنة والخفية داخل الذات الإنسانية، لنبصر في لوحاتها اضطرابات الواقع وتأثيره على الملامح والأبعاد الخاصة بالقيم الإنسانية والاجتماعية.

عزف لوني

بوكس

واختارت باسكاري مصر وتحديدا مدينة شرم الشيخ وفضاءات منتجع دومينا كورال باي التي تطل على خليج العقبة لتقيم معرضها الجديد “تلوث العقل” والذي افتتح في الثلاثين من ديسمبر الماضي ويستمر حتى نهاية يناير الحالي، وذلك في حضور محافظ جنوب سيناء الوزير اللواء خالد فوده وجوڤاني ساتشي مرسيدس وإيفا هينجر، والفنان جمال مليكة، والشاعر والناقد التشكيلي جمال القصاص، وإليزا جي (مذيعة حفل مسابقة الأغنية الأوروبية)، وماركو سالفاتي (منتج التلفزيون الإيطالي ميدياست)، وليوناردو فياسكي (كوميدي – مؤلف).

وفي هذا المعرض تواصل باسكاري سباحتها التعبيرية التجريدية في أعماق الذات الإنسانية، لتضيء المزيد من آثار ما يجري في العالم من تطورات هائلة متوترة وقلقة ومرتبكة على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والفكرية والتكنولوجية على العالم الخفي المحيط بالإنسان والمليء بالأسرار. حيث تعزف تكوينا لونيا موسيقيا في أشكال إيحائية تتوالد من الألوان الأزرق والأرجواني والبنفسجي والبني بما تحمل من قدرة على إحداث تناغم بين العقل والعواطف وبين الفكر والنشاط، والحنين الجسدي للسلام.

ليس هناك تدفق شهواني، الأمر الذي يبدو من الانفجار اللوني داخل اللوحات، ولكن حالة دخول إلى شبكات معقدة وملتبسة عقليا ووجدانيا وروحيا في محاولة لاستكشاف ما يعتمل داخلها من تأثيرات المحيط الواقعي المأزوم بالتوترات. وهناك نقطة انطلاق داخل كل لوحة إلى هذه الشبكات قد تكون في المنتصف أو قادمة من أسفل أو أعلى.

إن الفنانة تحفر بالخط واللون معا طبقة تلو الأخرى من الذات الإنسانية لالتقاط ما يصيبها من توترات سلبية، لتقدم لنا لوحة فنية كاشفة متعددة الدلالات والإيحاءات، يمكن لكل متلقّ منا أن يرى فيها سلامه الروحي والوجداني.

وفي حوارها لصحيفة “العرب” أكدت باسكاري أن عملها كفنانة تشكيلية بدلا من عارضة أزياء لم يكن مرحلة انتقالية بل نقطة تحول في حياتها حيث تقول “لقد قررت أن أكرس نفسي للحياة الأسرية وأواصل العمل كأخصائية نفسية بجانب الفن وذلك بتبني سبل الفن العلاجي”.

وتضيف “بدأت الرسم في سن الرابعة والعشرين بمشاركتي في دورات تدريبية مقدمة من قبل معلم إيطالي شهير هو جيوناتان لومباردي، لقد علمني أسس الرسم ومنها كيفية رسم صور الأشخاص والمناظر الطبيعية والطبيعة الساكنة وتجانس الألوان”.

◙ ألوان متناسقة تنشط عملية التحرر العقلي

وتتابع باسكاري “هذه كانت بداية مسيرتي مع الفن التشكيلي، الرسم بألوان الأكريليك وتقنياته التي طالما اعتمدت عليها لوحاتي. كما اختبرت تقنيات الرسم بالأحبار الكحولية”.

وتشير إلى أنها تحرص دائما على تطوير سبل العمل والارتقاء بالذوق الفني استعدادا منها لخوض غمار تجارب جديدة وتعلم تقنيات جديدة تصقل مهاراتها الفنية، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه كل فنان يسعى إلى التميز والتفرد في عمله. فالهدف من الفن هو الاستمرار في التجدد والتطور والارتقاء.

وترى باسكاري أن حالتها الفنية في أعمالها تعكس خبراتها الشخصية وتأثيرات الأشخاص من حولها: كالأصدقاء والأقارب والمرضى وأفراد الأسرة.

وتقول “يعد اختيار الألوان ومزجها وتخفيفها بطريقة صحيحة للحصول على الدرجة المناسبة هي الخطوة التي تستغرق وقتا أطول قبل أن أمضي قدما في تنفيذ العمل الفني. ويعد اللون الأزرق هو اللون الأكثر استخداما بالنسبة إلي، وهو لون كثيف وهادئ وعميق”.

وتلفت إلى أن “الموضة والفن يمثلان عالما واحدا، فلا يمكن الإبداع في عالم الموضة دون أن نكون فنانين، ولا يمكن التحدث عن الفن دون مواكبة الموضة”.

تأثير يومي

فن

وتوضح باسكاري “دراستي لعلم النفس تعد بمثابة التأثير اليومي الذي ينعكس بدوره على تشكيلاتي الفنية، فجميع لوحاتي مستوحاة من الأحاسيس والتجارب المعاشة. ومن جانب آخر أحاول علاج كثير من الاضطرابات والصراعات الداخلية للذات الإنسانية من خلال أعمالي”.

وتشير إلى أن “كمية المعلومات التي نتلقاها حول مخاطر الحرب الدائرة هنا وهناك تجعلنا غير حساسين، والفن من ناحية أخرى دائما ما يكون له هدف معاكس.. وبشكل عام، تحاول كل لوحة من لوحاتي تقديم الراحة لأولئك الذين عانوا من صدمات العلاقات والمشاكل مثل الشعور بالتخلي. كل واحد منا لديه تجربة مختلفة، ولوحاتي تحاول استعادة الشعور بالتوازن لأولئك الذين يشعرون بالحاجة إلى اتصال إنساني حقيقي وليس عبر الاتصال الرقمي”.

وحول المعرض ومجيئه تحت عنوان “تلوث العقل” ترى باسكاري أن “أسوأ أنواع التلوث هو تلوث العقل كونه سبب كل أشكال التلوث الأخرى. حيث تعود إليه جذور التلوث البيئي أو المالي أو السياسي أو المنهجي (الفساد) إلى الجشع والتمركز حول الذات لدى الأفراد الذين يعانون من تلوث عقولهم”.

وتؤكد “ما أعنيه بالتلوث العقلي هو عدد الأفكار السلبية التي يمتصها العقل دون أن ندرك ذلك. في بعض الأحيان نلاحظها ولكننا لا نفعل شيئا لأننا لسنا على دراية بفن إدارة عواطفنا وعقولنا. هذه الأفكار السلبية أو الملوثات العقلية لها تأثير شديد على سلوكنا وعواطفنا وتستنزف طاقتنا الإبداعية. تشمل التدهور العقلي: مخاوف خيالية، تفكير سلبي، تهاون وتسويف، نماذج عقائدية، موقف حكمي، الحاجة إلى جعل الآخرين يقبلون وجهة نظرنا من خلال القوة، عدم التسامح، النقد الذي لا معنى له، الغضب والتفوق أو عقدة الدونية”.

وتضيف “التقدم البشري حول العالم إلى قرية صغيرة، في راحة أيدينا هواتف ذكية، تجعلنا متصلين بالعالم على مدار الثواني والدقائق وطوال أيام الأسبوع، وها هي تغمر عقولنا بالمعلومات واستمرار تنبيهات الرسائل. لقد عمقت وسائل التواصل الاجتماعي المقارنات بيننا، وزادت من الرغبة في عيش حياة مجيدة لشخص آخر على الإنترنت، وبالنسبة لأولئك الذين يفتقرون إلى عقل واضح ومتحرر، فإنهم يمثلون عاصفة مثالية يصيبهم جراءها الشعور بالحرمان. العقل هو الحدود الحقيقية للاستكشاف والتغلب لدى أولئك الذين يستطيعون فهم أنفسهم، والحفاظ على أذهانهم ثابتة والبقاء صامدين ومركزين على تحقيق الإنجاز والاستمتاع في رحلة الحياة”.

وترى أن الخطوة الأولى التي ينبغي علينا اتخاذها “هي الاعتراف بوجود مشكلة تتمثل في حالة الخدر واللامبالاة التي اعتدنا على وجودها في حياتنا اليومية جراء هذا التقدم التكنولوجي الهائل. ولوحاتي هنا تحفز جمهور المتلقين على تنشيط عملية التحرر والوعي وتفعيل مواجهة الذات لما يعترض سلامها. تتميز هندسة كل لوحة بتناظر استبطاني، حيث يكون اللون الأزرق – تعبيرا عن حالة عاطفية دقيقة – هو اللون السائد”.

كما تكشف “الأعمال، التي يتم إنشاؤها غالبا بعد جلسات نفسية مع مرضى يعانون من أمراض مختلفة، يتم تصورها على أنها استفزاز ودعوة للشروع في رحلة شخصية. في مسار يربط الفن بعلم النفس، تظهر الأحداث المسؤولة عن حالات الصدمة أو الصراع على السطح وتتحرر من العقل الباطن. لذلك يُعرَّف تلوث الفكر على أنه تلويث السلام الداخلي بالأفكار السلبية. هدف الفنان هو إبراز هذه المشاكل والمعاناة بشكل يمكنك من خلاله الحصول على بعض التحرر”.

14