التسويق التراثي لا يطور الاقتصاد الجزائري

لكل منتوج في الجزائر عيد ولكل مدينة معرض للمنتوجات الزراعية، لكن الاستعراض والالتباس بين النظرة الاقتصادية والبعد التراثي الاجتماعي جعلاها مناسبات للتعارف بين الأشخاص أكثر من التعريف بالمنتوج نفسه.
الخميس 2024/10/17
فرصة لاقتناص الصفقات أم فضاء لالتقاط الصور

كثيرة هي التظاهرات الاقتصادية والتجارية والحرفية المنتظمة من طرف المصالح الحكومية، في مختلف الجهات والمواسم والمناسبات، لكن الطابع الاستعراضي والدعائي جعل العديد منها يحيد عن رسالته وأهدافه. فبدل أن تُستغل كفرص للتعريف بالمنتوج وتسويقه وإقناع الزبائن واقتناص الصفقات، لا تعدو أن تكون مجرد فضاءات للصور و“السيلفي”، وتناول الكعك والعصائر.

ولو كان الأمر خاضعا للحساب والمساءلة عما حققته التظاهرات المذكورة، لاختفى الكثير منها، ما دام المعيار والهدف الأساسي هو العائد المادي، والقدرة على تسويق الإنتاج وإيجاد أسواق جديدة له. لكن ما دام الأمر يسير على هذا النحو من الاستعراض والتقاط الصور، فستبقى تلك التظاهرات فرصًا ضائعة أمام المنتوج الجزائري في السعي لولوج أسواق جديدة وعرضه على مستهلكين جدد.

جرى التقليد في الكثير من مثل هذه التظاهرات أن تُحشد الإمكانيات الدعائية لإرضاء وسائل الإعلام وكاميرات التلفزيونات، وعادة ما تختتم في صمت دون تقديم حصيلة للرأي العام عما تحقق وعما لم يتحقق، وتقييم مدى الوصول إلى الأهداف المسطرة. وحتى تظاهرات كبرى استنفدت أموالًا طائلة مرت مرور الكرام، خاصة إذا كانت فيها شجرة ما لتغطية الغابة.

◄ المعارض هي دعاية ناعمة للمنتوج الاقتصادي، والدبلوماسية الاقتصادية هي تسويق رسمي له. وفي الحالتين لا يمكن للترويج التراثي أن يطور اقتصادًا تنافسيّا، ولا يمكن أن يحل محلهما أو يؤدي دورهما

يروي أحد المخضرمين الجزائريين العارفين بالشأن التونسي أن تكوين شبكة النقل في البلاد انطلق من معرض ومن دهاء قادة سياسيين حينها. فقد أشرف الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة شخصيًا على تنظيم معرض لحافلات النقل، فوجه الدعوة لمختلف الماركات والعلامات الأوروبية، وحضرت شركات عديدة على أمل الفوز بصفقات مع البلد المستقل حديثًا (الخمسينات). ولأن تونس خرجت فقيرة معدمة من حقبة وصاية فرنسية، لم يكن بالإمكان ذلك.

لكن فريق الرئيس التونسي أقنع كل شركة على انفراد بترك المركبات المعروضة لتجريبها أكثر، وفي الطبعة الموالية للمعرض سيتم إبرام عقد التمويل. وعلى هذا النحو تركت الشركات العارضة مركباتها وعادت إلى بلدانها، ووجدت تونس نفسها قد كونت النواة الأولى لشبكة النقل دون أن تدفع فلسًا واحدًا.

بمثل هذا الدهاء القومي يمكن النهوض بأي قطاع من القطاعات، وبهذا المقياس يمكن حماية المصالح الوطنية. فحتى لو عادت الشركات الأوروبية لتعاتب التونسيين على ما قاموا به، سيكون لهؤلاء الأسباب المقنعة لاختيار هذه الشركة عن تلك، أو مفاضلة هذه المركبة على تلك. فطبيعة المناخ ونوعية المركبة وحدهما كافيتان لإنقاذ الموقف.

الأمر ليس على هذه الحدة، لكن بلدًا مثل الجزائر يطمح إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء لزهاء 40 مليون نسمة، والتطلع إلى تصدير مواد زراعية في إطار تنويع الدخل القومي، مطالب بالانفتاح أكثر على التجارب الناجحة في القطاع، وبطي صفحة الوسائل البدائية، لأنها لا تتواءم مع الأهداف المسطرة ولا مع الخطاب الذي تردده القيادة السياسية للبلاد.

لكل منتوج عيد ولكل مدينة معرض للمنتوجات الزراعية، لكن الاستعراض والالتباس بين النظرة الاقتصادية والبعد التراثي الاجتماعي جعلاها مناسبات للتعارف بين الأشخاص أكثر من التعريف بالمنتوج نفسه. فللبطاطس عيد ومعارض لكن أسعارها ملتهبة، والسبب باختصار هو أن الطلب أكثر من العرض، والمعارض المنتظمة لم تصل إلى أسرار تغطية الاحتياجات المحلية ولا التصدير. وأولى شروط ذلك هو كيفية إدخال وتوفير وسائل الإنتاج الحديثة، لأن التحديات أكثر بكثير من وسائل بدائية مازالت تُستعمل في إنتاج البطاطس وفي غيره.

ومع مطلع فصل الخريف تتوجه الأنظار جنوبًا حيث النخيل والتمر، وشمالًا حيث الزيتون والزيت. ولا تخلو مدن كبسكرة ووادي سوف وتيزي وزو وبجاية من معارض المنتوجين، لكن يبقيان فوق طاقة قطاع عريض من الجزائريين. فالمعادلة معقدة لأن المنتج يشتكي من ارتفاع كلفة الإنتاج، والمستهلك يشتكي بدوره من ارتفاع الأسعار، ويبدو أن الوصاية غير قادرة حتى على حماية المنتوج، حيث يُهرب هنا وهناك أين يُعاد توضيبُه وتغليفُه ووسمُه.

◄ جرى التقليد في الكثير من مثل هذه التظاهرات أن تُحشد الإمكانيات الدعائية لإرضاء وسائل الإعلام وكاميرات التلفزيونات، وعادة ما تختتم في صمت دون تقديم حصيلة للرأي العام عما تحقق وعما لم يتحقق

المشكلة في الجزائر ليست مشكلة إنتاج أو منتوج، فالبلد القارة بإمكانه توفير الغذاء لقارة أفريقيا بأكملها وليس لـ40 مليون نسمة فقط. لكن المسألة مرتبطة بالعزل بين ما هو تراث اجتماعي، وبين ما هو اقتصاد لا يعترف إلا بالأرقام والمعدلات. فمن غير المعقول البقاء في استعراض العادات والتقاليد في مطلع موسم جني الزيتون، والتذكير بمعاصر أكل عليها الدهر وشرب، لأن دخول السوق ومنافسة المنتوج المتوسطي يتطلبان نظرة أخرى وإستراتيجية مغايرة تمامًا.

من غير المنطقي أن تكون عائدات بلد مجاور كتونس من التمور أكثر بكثير من عائدات الجزائر. فلا المساحة تسمح بذلك ولا إمكانيات البلدين تسمح أيضًا، لكن خللًا مزمنًا مازال يلف المنتوج وغيره من المنتوجات. فلا يكفي تلويك جودة التمور الجزائرية دون وضع آليات ناجعة لحمايتها أولًا وتسويقها ثانيًا. ومحافظة بسكرة بالإمكان أن تتحول إلى معرض مفتوح على مدار العام، ما دام المنتوج قد تحول إلى اقتصاد بذاته.

ظهر في الآونة الأخيرة لغط حول منتوج “المرجان” الجزائري الذي غزا الأسواق الفرنسية والأوروبية، وخيمت التجاذبات السياسية على المنتوج الذي بات يُباع تحت الطاولة بعد حظره من طرف الجهات الوصية في فرنسا. وإذا كانت المؤسسة مطالبة بإثبات جدارتها أمام المنافسين والاستفادة من ترتيبات اتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي، فإنها تعد نموذجًا يُحتذى به من طرف الآخرين، شأنها شأن مؤسسات أخرى أثبتت قدرتها على ولوج الأسواق الأوروبية، وتلك هي التجارب التي يستوجب تصدرها للتظاهرات الاقتصادية وللدبلوماسية الاقتصادية.

المعارض هي دعاية ناعمة للمنتوج الاقتصادي، والدبلوماسية الاقتصادية هي تسويق رسمي له. وفي الحالتين لا يمكن للترويج التراثي أن يطور اقتصادًا تنافسيّا، ولا يمكن أن يحل محلهما أو يؤدي دورهما.

9