التسجيلي والدعائي
قرأت مؤخرا بجريدة “الوفد” المصرية تحقيقا صحافيا عن الدورة الأخيرة من المهرجان السنوي للأفلام المصرية الذي يطلق عليه منظموه التسمية المعتادة التي تطلق على الكثير من المؤسسات المصرية منذ زمن الرئيس جمال عبدالناصر، أي “المهرجان القومي” للسينما المصرية.
ونقل التحقيق عن الدكتور حسن مكاوي عميد كلية الإعلام بجامعة مصر أنه “يؤيد ضرورة وجود لجنة مشاهدة بالمهرجان، لاختيار أفلام تليق بالجمهور المصري، فليس كل ما ينتج يعرض، هناك أفلام لا تستحق عرضها لما تحمله من مضمون ضد الدولة، أو للترويج لأفكار هدامة، أو تبث رؤى تختلف عن عاداتنا وتقاليدنا”.
ويمضي التحقيق قائلا “ويرى مكاوي أن أفلام تخرّج الطلبة من كليات الإعلام معظمها جيد ويحق لها أن تشارك في المهرجان، فدائما الأفكار تتبلور وتصنع حالة إبداعية بفريق عمل له نظرة فنية، والفيلم التسجيلي من الممكن أن يكون عينا على التنمية، ويروج للمشروعات القومية، كما كان يفعل التسجيليون في الماضي”.
الدكتور الأكاديمي المسؤول عن تخريج أجيال من دارسي الإعلام الذين سيصبحون من الصحافيين ومقدمي البرامج التلفزيونية، يقرّ بضرورة أن يصبح الفيلم التسجيلي أداة للدعاية الرسمية للدولة كما كان “في الماضي”، أي خلال الحقبة الناصرية، بل ويضرب أيضا أمثلة محددة مما كان يخرجه مخرجون مثل حسن التلمساني وسعد نديم اللذين قدما أفلاما يضرب بها المثل في قدرة الفيلم التسجيلي على إظهار شجاعة المقاومين للعدوان الثلاثي ودور المقاومة الشعبية في التصدي لهذا العدوان، ورصد مراحل بناء السد العالي في سلسلة الأفلام التي صنعها المخرج صلاح التهامي.
والحقيقة أن “رؤية” الدكتور مكاوي تتطابق مع ما يراه الكثير من أبناء النخبة المثقفة خاصة من الأجيال القديمة، في ما يتعلق بدور الفيلم التسجيلي بوجه عام، فهو طبقا لهذا الرأي وهذه الرؤية، يجب أن يكون مواكبا لمنجزات الحكم، أي أنهم يرونه أداة دعايةٍ رسمية لما تقوم به السلطة، بافتراض أن تلك السلطة “لا تتغير” من خلال نظام ديمقراطي تتعدد فيه الآراء والاجتهادات وتتناوب عليه حكومات ذات توجهات مختلفة سياسيا واقتصاديا، أي أننا ما زلنا نعيش في أسر التصور العتيق من زمن الحزب الواحد والزعيم الأوحد، وهي رؤية تغفل بشكل فادح الأشكال والتطورات الجديدة التي لحقت بالفيلم التسجيلي.
ومنذ نشأته كان الفيلم التسجيلي أكثر جرأة في تناول الواقع الاجتماعي والسياسي والحربي والاقتصادي، من الفيلم الروائي، وكانت وظيفته قد انتقلت وتطورت من مجرد “مواكبة وتوثيق” الأحداث إلى التنقيب عما وراءها، والبحث في مغزى التطورات الاجتماعية والسياسية ومناقشة الظواهر السياسية أو العلمية، مناقشة استقصائية تقوم على البحث المحايد، وتحقيق التوازن بين الأطراف المختلفة: المؤيدة والمعارضة، وكشف الفساد والسياسات الاجتماعية والمخاطر التي تترتب على تنفيذ برامج معينة… إلخ.
وكل هذه الجوانب يكون فيها الناس البسطاء أصحاب المصلحة هم الأساس، ورأيهم أهم من رأي الخبراء ومن رأي رجال السياسة، كما أن الفيلم التسجيلي الحديث لا يتعامل بمنطق الدعاية مع استخدام التعليق الصوتي المصاحب الطويل الذي تشيع فيه الكلمات الكبيرة الرنانة، والشعارات الحماسية على طريقة إعلام النازية والنظم الفاشية عموما.
تكمن المشكلة في أن البعض يريد للفيلم التسجيلي الذي تحرر كثيرا من القوالب القديمة في الشكل والمضمون، الخضوع لتوجهات الدولة الرسمية، بل ويريد أيضا من الإعلام أن يصبح ذيلا للحكومة، بدلا من أن يكون رقيبا عليها أو “سلطة رابعة” تقوم بدورها إلى جانب السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية.
ويحلم الكثير من المثقفين وقت الأزمات بأن تندمج كل هذه السلطات في سلطة واحدة حديدية يقودها “الزعيم” الملهم، وهذا المفهوم لا يؤدي في الواقع سوى إلى تخريج أجيال من الإعلاميين والصحافيين الجبناء الذين يخشون مجرد التعبير عن أفكارهم وآرائهم أو نقل الحقيقة من على ألسنة الناس، والاكتفاء بما يردده المسؤولون في السلطة في مجال الدعاية للسلطة و”إنجازاتها” التي سرعان ما يتضح أنها “إنجازات من ورق”… وهي محنة ما بعدها محنة حقا!
ناقد سينمائي من مصر