"التذكرة الزرقاء".. عالم يتحكم في أجساد النساء ومصائرهن

الكاتبة البريطانية صوفي ماكنتوش تكتب رواية أقرب إلى الحلم.
الاثنين 2024/07/29
التحكم في أجساد النساء (لوحة للفنانة آني كوركدجيان)

تستكشف رواية “التذكرة الزرقاء” عالما مختلفا وتفضح الاستبداد الذي سيتطور بشكل مفزع ليسيطر على الأجساد ويترك للآلة تحديد مصير المرأة، حيث تحرم الكثيرات من الأمومة وتجبر أخريات عليها في بيئة تتحكم في أجساد النساء وأقدارهن.

تقدم رواية “التذكرة الزرقاء” للروائية البريطانية صوفي ماكنتوش منظورا خاصا للمنحدر الزلق المتمثل في السيطرة المؤسسية على الاستقلالية الجسدية، وذلك من خلال استكشاف التداعيات العاطفية والجسدية لعملية تحديد النسل القسري في مجتمع المستقبل القريب؛ مجتمع يكون فيه قرار إنجاب الأطفال أمرا ليس بأيدي النساء، ولكن ضربا من الحظ عبر نظام اليانصيب، لا يوجد اسم للدولة ولا المدينة التي تدور فيها الأحداث المتوترة والمثيرة.

لا تمنح ماكنتوش في الرواية الرجال أسماء مكتفية بالأحرف الأولى فقط وأما النساء فتمنحهن الأسماء الأولى، وتجمع بين الدراسة المتعمقة للشخصية والقدر المناسبيْن من الخلفية. وتلفت إلى أن الجسد الذي ولدنا فيه ورحلته الخاصة هو في جزء منه مقامرة تلعب فيها الذات عن طيب خاطر دورا ثانويا. وتتساءل: ما الذي يتطلبه الأمر لتغيير الحياة التي تم اختيارها لك بشكل عشوائي، من خلال نظام يانصيب تفرضه السلطة؟ ما هو الدور الذي يلعبه الحظ في الحياة؟ كيف تهرب من الاختيار إلى عالم آخر؟

عالم استبدادي

الرواية تفترض وجود مجتمع تحصل فيه الفتيات اللاتي يدخلن سن البلوغ على تذكرة زرقاء أو بيضاء
الرواية تفترض وجود مجتمع تحصل فيه الفتيات اللاتي يدخلن سن البلوغ على تذكرة زرقاء أو بيضاء

كالا، بطلة الرواية، التي ترجمها علي عبدالأمير صالح وصدرت عن دار المدى، تنشأ في عالم يختلف عن عالمنا؛ في عالمها حين تختبر النساء دورتهن الشهرية الأولى، يؤدين طقسا يصطحبهن خلاله آباؤهن، حيث يتعين عليهن أن يخترن تذكرة صغيرة من جهاز اليانصيب، والتذكر إما تكون زرقاء أو بيضاء، التذكرة الزرقاء يعني أنه سوف يدخل جهاز تحديد النسل بشكل قسري في جسمك طوال ما بقي من حياتك، هو بشكل رئيس جهاز دائم يوضع في داخل رحم المرأة كي يحول دون الإنجاب، أما التذكرة البيضاء فتعني أنك سوف تنجبين الأطفال.

هكذا تفترض الرواية وجود مجتمع تحصل فيه الفتيات اللاتي يدخلن سن البلوغ على تذكرة زرقاء أو بيضاء. لا يمكنهن اختيار إنجاب الأطفال أم لا؛ لون التذكرة، الذي يتم ارتداؤه دائمًا في قلادة حول الرقبة (رمز أنثوي جميل تم تحويله إلى نظام تصنيف بلا قلب)، يحدد ذلك. وفي حين أن النساء ذوات التذاكر الزرقاء غير مقيدات جنسيا ونشطات مهنيا، فإن النساء ذوات التذاكر البيضاء فقط يصبحن أمهات (على الرغم من أن الآباء يمثلون الوجه العام للأبوة، حيث يتجولون في جميع أنحاء المدينة بعربات الأطفال الكبيرة، ويتلقون الهدايا من المتفرجين).

ليست هناك أي فكرة عن سبب السيطرة على النساء بهذه الطريقة (نقص عدد السكان؟ اكتظاظ سكاني؟ حماسة دينية؟)؛ لا توجد أي من التفاصيل الاجتماعية أو اللاهوتية في الرواية. الروائية تستخدم ديستوبياها الصارخة وغير المحددة للتصارع مع غموض الأمومة. فكونك بلا أطفال لا يعني تلقائيا أنك حرة، ولا تعني الأمومة أنك مكتملة. في أي ثقافة، بما في ذلك ثقافتنا، حيث يُنظر إلى النساء على أنهن كائنات أقل شأنا، إذا لم يكن “فتيات صالحات” أو أمهات، فإنهن يصبحن فتيات، عاهرات، حواء اليوم.

في مرحلة البلوغ المبكر، يقوم والد كالا بأخذها إلى مختبر اليانصيب، وهناك تلتقي بفتيات أخريات في نفس عمرها، جميعهن يرتدين فساتين جميلة، وجميعهن ينتظرن بصبر أن يتم استدعاؤهن. كما تتذكر كالا: تم استدعاء اسمي أولا. راقبوني بينما كنت أسير على طول الغرفة، نحو الآلة داخل صندوقها المغطى. وضعت يدي فيه. كنت متخوفة ولكني مستعدة لأن يتم تحديد حياتي، كانت الآلة صامتة عندما أفرغت قطعة من الورق الصلب في يدي”.

بمجرد تحديد مصيرها، يجب على كالا أن تشق طريقها إلى المدينة بمفردها وعلى الأقدام متجنبة مجموعات الرجال المتجولين الذين يجوبون الشوارع، إنها تبدأ حياتها البالغة كـ”تذكرة زرقاء”. في المختبر، تم تجهيز كالا بلولب نحاسي وتركيبه لها، ومن المتوقع أن تساهم في المجتمع فقط من خلال منصبها ككيميائية في المختبر. تفكر كالا “تم الحكم علي أنه ليس مناسبا لي أن أكون أما من قبل شخص يعرف أفضل مني”.

في هذا العالم الاستبدادي والأبوي، فقط الأشياء التي يمكن رؤيتها عن قرب: الفستان، الشراب، الجنس، القلادة التي تحتوي على تذكرة يجب على كل امرأة ارتدائها، وفوق كل شيء جسد الأنثى بكل طبقات إدراكه، الجسدية والعقلية والعاطفية مفصلة. كل شيء آخر غامض. هذا عالم أحلام، يتمحور حول نوع من قصر النظر النابض بالحياة والخانق، والمحاط بقسوة غير متمايزة.

قصة لا تعلن الكثير من الأشياء عن عالمنا الخارجي بقدر ما تكشف، بشكل وثيق، العالم الداخلي لجسد المرأة
قصة لا تعلن الكثير من الأشياء عن عالمنا الخارجي بقدر ما تكشف، بشكل وثيق، العالم الداخلي لجسد المرأة

كالا، بطلة الرواية وراويتها تعمل في مختبر، وتكتفي في البداية بحياة الركض والتمارين الرياضية المائية؛ وعلاقات قصيرة وخطيرة في بعض الأحيان (الأولى لها، بشكل مروع، عندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها)؛ شرب النبيذ ليلة الأحد مع الزملاء؛ والمواعيد المنتظمة التي تتبارى فيها و/أو تغازل الدكتور “أ” الكافكاوي، وهو شخصية تشكل مزيجا من المحلل النفسي المحبوب والمتلاعب الموهوب. إنها نموذج للمرأة العازبة الحديثة.

ولكن بعد ذلك ينشأ لدى كالا شعور جديد ضد الاستبداد الذكوري، شعور بالتمرد ضد ما يمارس ضد جسدها، فما أن تبلغ عامها الـ32، حتى تقوم بإزالة جهاز منع الحمل المزروع فيها. تلتقط رجلاً محتملاً، “ر”، وتبدأ في الحمل.

قالت “كل خلية في جسدي كانت تخبرني أن هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله”. في هذا المجتمع، بالطبع، هذا هو الشيء الخطأ تماما الذي لا يجب القيام به. تريد كالا ما ليس من المفترض أن تحصل عليه: ليس فقط طفلاً، بل زوجًا ومنزلًا جميلاً ولطيفًا. “كنت أفتخر دائمًا بكوني وحيدة، والآن لدي رغبة شديدة في أن أكون في منزل مع أشخاص أرتبط بهم”.. تقوم بإزالة اللولب النحاسي بنفسها باستخدام الملقط وكمية كافية من الخمر لتخدير الألم. عندما يتم اكتشاف حمل كالا، تُطرد من عملها وتُترك مرة أخرى لتتدبر أمرها بنفسها.

وتقدم ماكنتوش صراع كالا الداخلي بدقة؛ ماذا عن ولاية كالا التي تم تحديدها بشكل غير أمومي؟ كيف ستعتني بطفل دون حماية الأسرة أو المجتمع؟ هل يمكنها أن تثق بالنساء الأخريات اللاتي تقابلهن على الطريق، واللاتي قررن أيضًا أن يقررن مصيرهن بأيديهن؟ وتكشف أن كالا، مثل غيرها من النساء في بلدها، ليس لديها سوى القليل من المعرفة الطبية عن جسدها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحمل والولادة، فليس لديها أي غريزة حول كيفية حمل الطفل. هذه التفاصيل تحول سعي كالا المؤلم لتصبح أما إلى محاولة مفجعة لتقرير المصير وتقدير الذات ومعرفتها بغض النظر عن التكلفة.

التأثير السردي

صوفي ماكنتوشت تتساءل: ما الذي يتطلبه الأمر لتغيير الحياة التي تم اختيارها لك بشكل عشوائي
صوفي ماكنتوشت تتساءل: ما الذي يتطلبه الأمر لتغيير الحياة التي تم اختيارها لك بشكل عشوائي

من خلال وضع كالا في نظام يحجب المعلومات الأساسية عن جسدها عمدًا، تركز ماكنتوش على هذا الجسد لإبراز المشكلات الشائعة بين النساء في جميع أنحاء العالم. إنها تجيد التعامل مع الجسد الأنثوي وإدراكاته في الفوضى والقوة، وفي الحالات القصوى من القدرة على العنف، وفي التأثيرات النفسية لإنكار هذه الجسدانية.

عندما اكتشف الدكتور “أ” أن كالا حامل، حثها على إجراء عملية إجهاض؛ وفي حالة رفضها ذلك، فإنه يجب عليها الهرب وأخذ الحذر من ملاحقة الموظفين السريين، الذي يتعقبون نساء التذكرة الزرقاء اللائي يحملن الأطفال في أحشائهن، يتعقبونهن بسياراتهم اللامعة، مع أنهن يقطعن مسافات طويلة في هربهن من السلطات التي حظرت عليهن الحمل والإنجاب.

تشرع كالا في رحلة برية مليئة بالتوتر، مخططة العبور إلى دولة مجاورة حيث لا يوجد نظام التذاكر، وعبر عالم صعب من البلدات الصغيرة والفنادق القذرة والمطاعم، وعلى الرغم من المعاناة لكن الوعد بالحرية يقوم بتقوية عزيمتها. على طول الطريق تلتقي بنساء أخريات (كملاحظة جانبية يتم إعطاء اسم لجميع النساء، بينما يتم تخصيص حرف للرجال) وخلال هذه اللقاءات تثار الكثير من الأسئلة حول الإرادة الحرة وحقوق الإنجاب والأمومة.

ماكنتوش تكتب بشكل عام رواية واضحة وحادة مع لحظات ثاقبة من الحكمة والبصيرة التي تقود نحو نهاية مثالية

تلتقي كالا بزميلتها المتمردة ماريسول، والتي لا تتقاسم معها الطعام والمأوى والجنس فحسب، بل أيضًا رباط الحمل الجديد، قلت لماريسول: “هناك شخص بداخلك، فأجابت بجدية: وفي داخلك”. يستقران في كوخ مهجورعازمتين على الإنجاب قبل أن يتم القبض عليهما من قبل السلطات. ومع مرور الوقت، تنضم إليهما ثلاث نساء أخريات: اثنتان حاملان، والثالثة ذات التذكرة البيضاء، فاليري، التي أجهضت جنينها وعوقبت على ذلك. “طوال حياتي، تقول فاليري للأربعة الآخرين، لقد قيل لي إنني لا أستطيع أن أكون مكتملة إلا إذا قمت بتنمية شيء بداخلي وأخرجته إلى العالم. وتعلن أن الحمل يشبه اختطاف الجسد “الطفل يريد البقاء على قيد الحياة بأي ثمن، والطفل لا يهتم بك. هذا مقرف. تعتقدين أن لديك قوة، لكن الأمر كله مجرد علم الأحياء”.

تكتب ماكنتوش بشكل عام رواية واضحة وحادة، مع لحظات ثاقبة من الحكمة والبصيرة التي تقود نحو نهاية مثالية، لا تقدم إجابات سهلة، ولا تفسر كيف انتهى العالم بهذه الطريقة، أو حتى أين تحدث القصة بالضبط في العالم. إنها تجسيد عالمها بما يتجاوز ما هو مطلوب لرواية قصة كالا. وعلى هذا النحو، فهي لا تشرح أبدًا سبب لجوء هذا المجتمع إلى اليانصيب لتنظيم معدلات المواليد، أو لماذا تحتاج إلى التحكم فيها في المقام الأول (هل هو للتخفيف من الاكتظاظ السكاني، أم هو استجابة جذرية لتغير المناخ؟).

هذا النقص في المعلومات الملموسة ليس محبطًا على الإطلاق، ولكنه ضروري للتأثير السردي: شيء استعاري وشبيه بالحلم، قصة لا تعلن الكثير من الأشياء عن عالمنا الخارجي بقدر ما تكشف، بشكل وثيق، العالم الداخلي لجسد المرأة. هذا لا يعني أنه لا توجد أوجه تشابه ذات معنى يمكن استخلاصها بين تجربة بطلة الرواية وتجربة الكاتبة كونها امرأة في عالم اليوم، ولكن التجربتين لا يتم رسمهما من خلال الفرضية البائسة، بل من خلال خصوصية القصة المدروسة.

 لقد نجحت ماكينتوش في تجنب مأزق محتمل لهذا النوع ألا وهو التركيز على قضية واحدة. حيث تهتم بمجموعتها الصغيرة من الشخصيات أكثر من اهتمامها بالعالم الذي تشغله، حيث تنشغل بقضاياهم الداخلية؛ بالتوتر بين الاستقلال والالتزام، بين الرغبة والقدرة، بكل ما يتعلق بالأنوثة المعاصرة: تحت التهديد المستمر لمجرد امتلاك جسد، والرغبة في تقرير مصيرك.

13