التداخل بين الفنون ممارسة تنتج أنساقا جمالية خارج الأجناس الفنية

لم يكن الفن التشكيلي يوما فنا سجين أسواره الضيقة وإنما كان ولا يزال منفتحا على كل التجارب والفنون والحضارات، لذلك تجده أكثر الفنون تجددا وقدرة على تجاوز الأجناس والنمطية في التجنيس الفني، ومن هذا المنطلق يأتي كتاب الباحث التشكيلي صدام الجميلي، الذي يبرز قدرة الفن التشكيلي على تطويع المواد والتجارب لكسر الحدود والقيود النمطية.
يعد تداخل الفنون التشكيلية سلوكا راسخا في تاريخ الفنون التشكيلية، وبلا شك إن تنافذ الفنون هو ممارسة لها دوافعها، وأسبابها المتعددة، بين ما هو عقائدي، أو اجتماعي، أو جمالي. وهي ممارسة تؤكد حضورها اليوم بشكل واسع في المجال البصري، لما تتمتع به من قدرة على التنوع والثراء الشكلي، والتعبير الحسي، عبر استقدامها للكثير من التقنيات والمرتكزات الجمالية. وما يدور اليوم من نشاط بصري ما هو إلا خلاصة لهذه الممارسة.
ولأن الفن اليوم يجري بعيدا من التصنيفات والهوية الأجناسية فإن من الضروري قراءة تاريخ هذه الممارسة، ومعرفة آليات نهوضها، ومدى أهميتها في إنتاج العمل الفني. وهذا ما يحاول الفنان التشكيلي والناقد العراقي صدام الجميلي في كتابه “انفتاح النص البصري.. دراسة في تداخل الفنون التشكيلية.”
الفن التشكيلي يمتلك مساحات واسعة تعزز إمكانيته على التنقل بين الأجناس واستعارة ومزاوجة أشكاله المختلفة
في كتابه الصادر عن “كتاب الفيصل” أحد إصدارات مجلة الفيصل السعودية، يرى الجميلي إن فكرة تباين الأجناس التشكيلية تعد نظرية خاصة بعصر النهضة، وهي واحدة من أهم طروحات ذلك العصر، كمرحلة تفصل بين الفنون بحثا عن نقاء الأجناس الفنية؛ لأسباب مختلفة أهمها سطوة المهارة الحرفية في إنجاز كل جنس فني، كشفا عن مدى بلوغ الفنان بالجنس الفني إلى ذروته التقنية، وتتجسد تلك النظرية في مجمل فنون ذلك العصر، سعيا منها لنوع من المحاكاة الإعجازية للصورة المثال. الصورة التي لا تشوبها أي شائبة، بمقاييس، وبالتالي كان من المعيب أن يخلط الفنان بين أي إظهار نحتي مع الإظهار التصويري. كما كان من غير اللائق أن يجمع الفنان في نشاطه بين جنسين فنيين حيث لا يمكن للنحات أن يكون مصورا.
ويلفت الكاتب إلى أن “تاريخ الفن التشكيلي يبرهن على أن الجنس الفني نشاط ليس راسخا، بوصفه سلوكا لمرحلة محددة، حيث نجد أن المساحة الكبرى من التاريخ عملت على نسفها بشكل يستدعي تداخل الفنون لضرورات مختلفة، وأهمها كانت حرية الفنان في إنتاج عمله، ورغبته في إنتاج ما هو مختلف، فإذا كانت الفنون القديمة لم تعر اهتماما للجنس الفني لدوافع ثقافية (دينية ـ اجتماعية)، فإن الفنون الحديثة قامت على تداخل هذه الفنون لأسباب مختلفة أهمها: الخروج على التاريخ الفني السائد، ومحاولة البحث عن حلول جديدة.”963.
خروج عن السائد
يبحث المؤلف في كتابه هذا ابتداء في المداخل التي هيأت للنشاط الجمالي إمكانية تداخل تلك الفنون عبر معرفة العناصر الفنية والطاقة البانية للشكل البصري. في محاولة للإمساك بمرتكزات التداخل البصري والتقني. كما يبحث الاختلاف الأساس بين فني الرسم والنحت، عبر تحديد الفوارق بين العمل التصويري ببعديه والبعد الثالث للعمل النحتي. والكشف عن آليات الإيهام والتجسيم في الشكل البصري، وإمكانية التداخل بين السمات الفنية لكلا الجنسين. ويقرأ البنية الشكلية عبر شكلانية الصورة وخياراتها المتعددة في التداخل، من خلال دراسة المقومات الحسية والتقنية والمادية للخامة.
وعبر أكثر من فصل يتناول الجميلي الفنون القديمة كتداخل الأجناس في الفن الرافديني، والتداخل في الفن العربي الإسلامي. ويدرس الفنون منذ عصر النهضة، انتهاءً بالفن الحديث بوصفه موئلا لتداخل تلك الأجناس.
ويؤكد أن الفنون القديمة وبخاصة الفن الرافديني والفرعوني ساهمت بشكل مباشر في تنافذ خصائص الفنون وملامحها، محققة المزاوجة والتماهي بين الفنون التشكيلية بطرائق متعددة، عبر التلوين والتطعيم، وقد كشفت هذه الممارسة عن البعد الحضاري لهذه الفنون، ومدى فهمها للخامة، وإمكاناتها، وكيفية توظيفها لإنتاج مشهد فني يتسم بالأصالة والتميز. كما مثل الفن الإسلامي حالة من التماهي في الفنون بعيدًا عن الخامات وتراكباتها التي اتخذتها الفنون في الحضارات الأخرى؛ لتكشف عن قدرتها في مزج الفنون عبر خامة واحدة محققة من خلالها منجزا فنيا في المزاوجة بين فن الرسم والرقش والتصوير والخط العربي والتزويق.
ويقول إن “الفنان الرافديني لم يسع إلا أن يطور نتاجه في استخدام التلوين بالإصباغ وبالأحجار الملونة ومحاولة التركيز على البعد المزدوج للعناصر التصويرية والنحتية، وقد كثفت هذه التقنية في محاولة الرسم على أجزاء من المنحوتات لمنح الشكل بعدا نفسيا عميقا، عبر رسم أجزائها المهمة، كالعيون والحواجب وغيرها من الإضفاءات التصويرية.”
ويضيف أن “الفنان قام بتركيب المواد وتثبيتها بشكل تقني جمالي يشبه فن التجميع والتركيب المعاصرين. وهي ممارسة واسعة في النحت الرافديني. لقد كانت تطعم المقل والبآبئ بمادة خاصة في تماثيل الكهنة التي اكتشفت في أشنونا “تل أسمرا” في منطقة ديالى وخفاجي وتل أجرب. كما تتضح تلك التقنية في المنحوتات مثل التطعيم في العينين لامرأة تعزف على القيثار تدعى (أور– نانشي) عُثر عليها في معبد نيني زازا في ماري، كما أنتجت في عصر(ميسلم) تماثيل مهمة وكبيرة الحجم مثل تمثالين لرجل وامرأة لها عيون واسعة طعمت باللون الأسود. وتؤكد المنحوتات المزجّجة في بوابات عشتار في الحضارة البابلية بشكل حتمي وحاسم ذلك التداخل، حيث تميزت هذه الأعمال الفنية بكونها تصوّر حيوانية خرافية ذات صور ناتئة على سطح ذي بعدين، كانت تزجّج سطوحها بألوان مختلف. وبذلك استطاع الفن الرافديني بشكل دقيق وناجح، الخوض في تجربة مزاوجة الفنون وخلط ملامح الفنون التشكيلية، واستدعاء ما هو ضروري من خصائصها ومن موادها لغرض إنجاز أعمال تصويرية ونحتية في آن واحد، وتحقيق أشكال غير تقليدية.”
تصاهر بصري
يوضح الجميلي أنه في فنون الحضارات القديمة كما في الفن الرافديني نجد شواهد كثيرة لمثل هذا التصاهر البصري والتشكيلي كتطبيقات راسخة لتنافذ الفنون. وبالتالي فإن الحضارة المصرية لم تغادر هذا النوع من الاستعارة والتعضيد، لنرى الكثير من الأمثلة لمنحوتات فرعونية حققت هذه التقنية، في ما يظهر في الرسوم والنقوش على التوابيت المزخرفة والمطعمة للمومياوات، فضلا عن استثمار الإظهارات التصويرية في تلوين المنحوتات كالتماثيل المصنوعة من الحجر الملون بالإصباغ. لقد استلهمت الفنون القديمة كافة الإمكانات المتحققة في تدعيم الشكل والمتأتية من استعارة الإظهارات التقنية الأخرى؛ لتمتد جاذبية اللون في أعمال التصوير خلال النحت والعمارة والأشكال الأقل مرتبة مثل المنسوجات. وقد اختص الكثير من النحت القديم والعمارة بميزات اللون، وهي حقيقة لا تتضح دائما في حطام العمارة وبقايا الأعمال الموجودة في المتاحف، ولقد بعث في عصرنا النحت الملون والعمارة الملونة، ويمكننا بسهولة الاستمتاع بلون أنواع معينة من الخشب والأحجار التي ترد من الخارج إلى النحت.
ويرى أن “ابتعاد الفنون التشكيلية عن المحاكاة والتسجيل الواقعي للشكل يسهم بشكل فاعل في إمكانية توظيف المادة التي تؤدي بدورها إلى تداخل الأجناس الفنية، باعتمادها البحث عن أشكال جمالية تتوافر فيها المغايرة والحرية من دون أي إشارات تسجيلية للواقع والبحث عن شكل جمالي فني منعزل بذاته، ليمنح تلك الفرصة في انصهار الفنون فيما بينها. إن التجسيم في الرسم ناتج عن تحقيق شكل من أشكال المظاهر البصرية التي يجري تمثيلها بالواسطة البصرية (اللون– الضوء) وهي تمثل حالة من الإيهام بالشكل عبر تحقيق صورته أو حضوره الظاهري المتمثل في اللون وانعكاسه على العين، فيما يمثل التجسيم المادي صفة نحتية باعتبار أن الشكل يتمتع بكيفية لمسية حقيقية تمثل وجوده الحقيقي. كما يتمتع اللون– وهو المرتكز الأساس في الرسم– بكيفية زمانية خلافا لفن النحت الذي يرتبط بكيفية مكانية عبر ملمسيته الواضحة، أي أن القيمة أو الطاقة الزمانية والمكانية تتفاوت بين النحت والرسم نظرًا لارتباط كل منهما بكيفية مختلفة؛ إذ يمكن الاكتفاء بإدراك اللون عبر الإحساس البصري فحسب، في حين يدرك الملمس باليد والبصر معا.”
ويؤكد الجميلي أن “العناصر التشكيلية ترتبط بطاقات بانية تحقق ملامحها وهوياتها، وتفرق بينها أو تبلور صورها، فاللون يحقق للعناصر صفتها التصويرية، وهو الطاقة البانية في فن الرسم، فيما يحقق الملمس الوجود المميز للعناصر في النحت، ويمنحها سماتها كما يمنحها خصائصها بوصفها عناصر نحتية. إن العناصر التشكيلية تصنع الشكل والفضاء، وإن كلا من النقطة والخطشكل في الأساس إلا أن صغر حجمهما لا يمكنهما من أن يمثلا أشكالا إزاء حاسة البصر، وهما يتدخلان في تركيب الشكل بصورة واضحة، كما أن اللون والملمس طاقتان بانيتان. في حين يمثل الحجم والاتجاه والقيمة صفات لتلك العناصر عبر قيمة أو مستوى الطاقة البانية.”
ويتابع أن “الملمس واللون يشكلان صفتين مفارقتين، أو حدّا فاصلا بين فني النحت والرسم عبر تكثيف قيمتهما أو تسنمهما الدور الرئيس في البناء، مع عدم غيابهما المطلق في كلا الفنين، فاللون عنصر حاضر في النحت، والملمس عنصر حاضر في الرسم. إن الطاقتين البانيتين (الملمس واللون) لا تتساويان في العمل ذاته، وذلك لتعطيل بعضهما بعضا من أجل نهوض إحداهما، وغياب إحداهما يفسح المجال لظهور الطاقة الأخرى، وتَسَاوِي هاتين الطاقتين في العمل قد لا يمنح العمل تلك الإزاحة المجازية،
وهو أمر في حاجة إلى قيم نسبية لإنجاح العمل؛ أي أن تعطيل أي طاقة لا بد أن يفسح المجال لطاقة بانية أخرى، تتكفل ببناء الشكل العام للعمل، وبالتالي يختلف فضاء العمل التصويري عن العمل النحتى بوصفه فضاء يتصف بما تتصف به المادة، حيث يبدو الفضاء في الرسم إيحائيّا. ويرتبط الشكل في فن التصوير بفضائه ماديًا، بينما ينفصل عنه إيحائيّا، وهو نتاج لبنية اللون الإيهامية، في حين يكون الشكل النحتي منفصلا ماديا عن الفضاء، وهو ناتج عن اختلاف القيم الكيفية لحاستي اللمس أو البصر.”
استعارة ومزاوجة
ويرى الجميلي أن “مطاوعة المادة التشكيلية منحتنا القدرة على تنافذ الفنون ومزاوجتها؛ وهو ما أفسح المجال أمام الفنان لإنتاج أنساق جمالية مختلفة خارج التجنيسات الفنية، وهو ما دفع بالفن التشكيلي إلى مديات مختلفة وشاسعة ومتنوعة في تقديم العمل الفني خارج حدود الجنس الفني، وبالتالي خارج التصنيف الأسلوبي الذي يُعَدّ اليوم تصنيفات قاموسية تمارس دورها لتداول التجارب ودراستها. وما التصنيف إلا افتراض غير دقيق.
ويخلص إلى أن ما نراه اليوم من تجارب فنية يمثل “مفرزا طبيعيا، وتبلورا مكثفا لتلك المساحة التي يتمتع بها الفن التشكيلي في إمكانيته على التنقل بين الأجناس، واستعارة ومزاوجة أشكاله المختلفة، وهو ما يثبت أن تلك الممارسة تعد ممارسة أكثر أصالة في تناول العمل الفني ونشاطه، وما التجنيسات سوى أنواع من الممارسات المهمة التي لا يمكن تجاوزها. إن التداخل بين الفنون هو ممارسة أكثر انفتاحًا وقدرة على تناول الأفكار والتجارب، كما أن لها القدرة على إنتاج الأساليب المختلفة، وهو ما تبناه التاريخ الفني على يد الفنان. وكل ما نشاهده اليوم من نشاط معاصر للفنون هو تطبيق لتلك الممارسة، واستمرار لطبيعة الفن التشكيلي وسجيته المنفتحة، وهو ما أفرز لنا عددا لا يحصى من التجارب والأفكار، وهو ما سعت هذه الدراسة لإثباته.”