التحول في مجال الطاقة بالجزائر.. كي لا تكون القفزة أكثر من المستطاع

الجزائر لا زالت في لائحة مصدري النفط والغاز لكن استشراف المستقبل يتوجب الدخول في إستراتيجية الصناعات البتروكيماوية. فلا يمكن الرهان على اقتصاد استكشاف واستغلال النفط والغاز التقليدي.
الخميس 2025/03/27
الحديث عن تصدير الكهرباء محفوف بالمخاطر

لم يولِ الإعلام الجزائري الأهمية اللازمة لإحدى الإشارات التي أطلقها الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، في لقائه الدوري مع وسائل الإعلام المحلية، رغم أهميتها في نهضة تنمية واقتصاد البلاد. فهي ضلع من أضلاع التحول في مجال الطاقة، وتتمثل في التوجه إلى تكرير النفط الخام إلى مواد بتروكيماوية، لتضاف بذلك إلى طموحات أخرى تتعلق بكسب رهان الماء والكهرباء.

وأعاد الرئيس طرح أحد المطالب التي رفعها منذ سنوات نخب وخبراء في مجال الطاقة، ويكون بذلك قد مهد لرؤية جديدة تجاه التعامل مع ورقتي الغاز والنفط، خاصة وأنهما يسيران إلى تراجع الإنتاج بسبب تقلص المخزون، وارتفاع الاستهلاك الداخلي مع النمو الديموغرافي المتزايد في البلاد، لاسيما في ظل استمرار سياسة ربط البيوت في المدن والأرياف بشبكة التوزيع.

ويبدو أن دوائر القرار تتوجه إلى بناء أضلع جديدة للشكل الاجتماعي والاقتصادي. فتكرير النفط صناعة قائمة بذاتها في العالم، وليس من الضروري أن تكون الشركة المحتكرة أو المؤسسات الشريكة صاحبة إنتاج يُستخرج ليتدفق خامًا إلى المستهلكين. وفوق ذلك، لا يتحكم فيه المنتجون المتوسطون أو الضعفاء، قياسًا بالتجاذبات الجيوسياسية التي تحكم العالم.

◄ شركة "سونلغاز" تحتكر إنتاج وتوزيع الكهرباء، وتحتكر "سوناطراك" قطاع الطاقة، وأما المياه فتتقاسم إنتاجه وتوزيعه وصايات متعددة

فرنسا، القوة الاقتصادية الكبرى في العالم، ليست بلدًا نفطيًا، لكنها تمتلك واحدة من الشركات العابرة للحدود في مجال الطاقة والتكرير. وتُعتبر “توتال” من أبرز الشركات العالمية التي تستحوذ على جزء معتبر من الإنتاج العالمي. وهو أمر محفز للجزائر الطامحة إلى التحرر من ريع النفط والغاز، والتحول إلى بلد منتج للمواد المكررة.

ويُعد تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال البنزين، الذي كان يكلف خزينة الدولة ملياري دولار من الواردات، والاقتراب من الأمر نفسه في مجال الديزل وحتى بعض الزيوت، خطوة في طريق خيار الاستغلال الحقيقي لموارد الطاقة في مواد مكررة بدل تصديره خامًا بأسعار لا تملك الجزائر قرار رفعها أو خفضها.

الجزائر لا زالت في لائحة مصدري النفط والغاز، لكن استشراف المستقبل يتوجب الدخول في إستراتيجية الصناعات البتروكيماوية. ولا يمكن الرهان على اقتصاد استكشاف واستغلال النفط والغاز التقليدي، في ظل تقلص المخزون وارتفاع الاستهلاك الداخلي، مما يرشحها في المستقبل لمغادرة نوادي الطاقة العالمية.

ويبقى رهان الغاز الصخري غير مطمئن، رغم أن الجزائر تمتلك واحدًا من أكبر المخزونات العالمية. ولذلك، يستوجب الأمر رؤية أكثر تثمينا للموارد المتاحة. فبرميل النفط غير مؤتمن، حتى ولو بلغ سعره 100 دولار للبرميل الواحد، بينما مشروع التصنيع والتكرير يُحقق عائدات مضاعفة من البرميل ذاته، ويُضاعف أيضًا القيمة المضافة. حيث يمكن أن تصبح المؤسسة المكررة زبونًا للمؤسسة المنتجة في الداخل، ويمكن أن تبني اقتصادًا بالاستيراد من الخارج.

الرهان لا يتعلق برؤية جديدة حول التعامل مع المنتج المحلي من النفط والغاز، والطموح إلى دخول نادي الصناعات التكريرية والبتروكيماوية، بل يتطابق مع تحديات الأمن المائي وفي مجال الطاقة بشكل عام. فالدولة الواقعة في إقليم جغرافي يواجه خطر الجفاف والعطش، يتوجب على سلطاتها وضع البدائل اللازمة، لأن المعركة الإستراتيجية القادمة في العالم هي معركة الماء.

حققت البلاد خمس محطات لتحلية مياه البحر، ينتظر الانتهاء من دخولها حيز الخدمة خلال الأسابيع القليلة القادمة. ووضعت الحكومة ست محطات أخرى قيد الدراسة والإنجاز، على أمل تحقيق سقف 70 في المئة من الحاجيات الوطنية لماء الشرب في غضون عام 2030، من المياه المحلاة. وهو ما يُعتبر رهانًا كبيرًا للتحكم في أزمة ماء الشرب في البلاد.

◄ تبون أعاد طرح أحد المطالب التي رفعها منذ سنوات نخب وخبراء في مجال الطاقة، ويكون بذلك قد مهد لرؤية جديدة تجاه التعامل مع ورقتي الغاز والنفط

لكن تبقى الجهود نسبية وغير كافية، مقارنة مع ترامي الرقعة الجغرافية للبلاد، وارتفاع الحاجيات الاستهلاكية، مقابل تفاقم أزمة الجفاف، وضعف آليات الاستغلال والتوزيع. حيث تذكر بعض المصادر أن قرابة الثلث من الكميات الموجهة للاستهلاك تذهب سدى بسبب تهالك شبكة التوزيع والتبذير. وكل ذلك يستوجب برنامجًا يشمل التحكم في التوزيع والاستغلال وحتى القيمة المالية، بنفس درجة استثمار محافظ مالية ضخمة في تحلية مياه البحر.

وفوق ذلك، أمام الحكومة حتمية تنويع المصادر، بداية من استغلال كميات التساقط، وتشييد المزيد من السدود وربطها ببعضها البعض من أجل ضمان التوزيع العادل بين مختلف ربوع البلاد. فضلًا عن المشروع الأكبر المتمثل في استغلال مخزون المياه الجوفية المشترك مع دولتي تونس وليبيا، واعتماد تكنولوجيات ومشروعات حديثة لضمان نسبي لتجدد المخزون الجوفي بالتبخير الاصطناعي وتشجير الصحراء لخفض درجات حرارتها.

المسألة متداخلة في التوفيق بين أضلاع التحول في مجال الطاقة بالبلاد، ودوائر القرار مطالبة بإيجاد آليات التكامل بينها. فتحلية مياه البحر وحتى استغلال المياه الجوفية يتطلب توفير مواد الطاقة من كهرباء وغاز ونفط. وبالنظر إلى المعطيات القائمة، بات من الضروري التوفيق بين تثمين النفط والغاز في صناعة تكريرية وبتروكيماوية، وإنتاج الكهرباء والتفكير في تصديرها، وهو ما يتطلب أيضًا الموارد المذكورة.

الخطة طموحة، لكن تجسيدها يستوجب استشرافًا بالغًا وحسابًا دقيقًا، بداية من الإرادة السياسية إلى تعبئة الإمكانيات البشرية والمادية اللازمة، قياسًا بترابط أطراف المعادلة. والحديث عن تصدير الكهرباء، المستفيدة في الظرف الراهن من وفرة وأسعار الطاقة التنافسية، محفوف بالمخاطر، في ظل الجاهزية غير المعروفة للشركة المنتجة نفسها ومدى قدرتها على إبرام اتفاقيات تموين لا مجال فيها للخلل.

تحتكر شركة “سونلغاز” إنتاج وتوزيع الكهرباء، وتحتكر “سوناطراك” قطاع الطاقة، وأما المياه فتتقاسم إنتاجه وتوزيعه وصايات متعددة. مما يحيل إلى ضرورة مراجعة وإصلاح عميق، من أجل الاستعداد لمشروع التحول المنشود في مجال الطاقة، لاسيما وأن الشركتين الأولى والثانية تتحدثان عن حاجتهما لعشرات المليارات من الدولارات لتجديد نفسيهما والاستعداد للمستقبل.

9